كلمتكم سابقا عن القلب الكبير المملوء بالتسامح والعفو, وهو أيضا القلب الهادئ العامر بالسلام والطمأنينة. واليوم أود أن أحدثكم عن القلب العطوف المملوء بالحنان والرقة الذي يفيض إشفاقا علي كل أحد, حتى على الذين لا يستحقون..!
وحنو الإنسان على غيره, قد يشمل الكائنات جميعا, فيحنو على العصفور المسكين, وعلى الزهرة الذابلة, وعلى الشجرة العطشي إلي الماء. ويحنو على الحيوان الضعيف الخائف من وحش يفترسه!
> وقد يكون الحنو في نواح مادية أو جسدية. كما يكون في نواح نفسية أو معنوية. وخلاصة الأمر أن القلب العطوف يفيض بحنانه في كل المجالات وعلي الكل. فيشفق علي الفقير المحتاج, وعلي المريض المتألم. كما يشفق علي اليائس المتعب نفسيا, وعلي الخاطئ الساقط المحتاج إلى من يأخذ بيده ويقيمه.
> والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب, وإنما القلب العطوف تتحول فيه العاطفة إلي عمل جاد من أجل إراحة الغير. ذلك لأن الحنان النظري هو حنان قاصر ناقص, يلزمه إثبات وجوده بالعمل. فهو لا يحنو بالكلام واللسان, بل بالعمل والحق.
> القلب العطوف يجول يصنع الخير. ولا يقول عن الساقطين الخاطئين إنهم لا يستحقون, بل يري بالحري, أنهم يحتاجون.
أليس أن الله تبارك اسمه وهو في علو قداسته, نراه يشفق علينا, ونحن في عمق خطايانا. وهكذا يستر ولا يكشف! وكم من أناس غطسوا في الشر, فلم يكشفهم ولم يفضحهم, ولم يشأ أن يعلن مساوئهم للناس. لأنهم لو انكشفوا لضاعوا, وانسد أمامهم الطريق إلى التوبة بعد فقدهم ثقة الناس..!
> لذلك فإن القلب العطوف لا يتحدث عن أخطاء الناس, ولا يشهر بها, ولا يقسو في الحكم عليها. بل قد يجد أحيانا لهم عذرا, أو يخفف من المسؤولية الواقعة عليهم. وإن قابلهم, لا يفقد توقيره لهم, معطيا إياهم فرصة لإصلاح وضعهم. بل إنه قد يضحي بنفسه من أجلهم, ويحمل بعض المسؤولية عوضا عنهم!
قال أحد القديسين إن لم تستطع أن تمنع من يتكلم على الغير بالسوء, فعلي الأقل لا تتكلم أنت. وقال أيضا إن لم تستطع أن تحمل خطايا الناس وتنسبها إلى نفسك لتنقذهم, فعلى الأقل لا تستذنبهم وتنشر خطاياهم..
> إن القلب العطوف يعيش في مشاعر الناس: يتصور نفسه في مكانهم, ولا يجرح أحدا. ويبرهن علي نقاوة قلبه بعطفه على الكل.. وهو يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات. وربما أقوى الناس تكون في حياته أيضا ثغرات. لذلك فإن القلب العطوف ينظر إلي الناس في حنو, حتى في سقوطهم أيضا! وبهذا كان أقوى المرشدين الروحيين هم الذين يفهمون النفس البشرية, ولا يقسون عليها في ضعفاتها..
> إن القلب العطوف, لا يعامل الناس بالعدل المطلق مجردا, بل يخلط بالعدل كثيرا من الرحمة. ولا يزن بميزان عدل جاف حرفي يطبق فيه النصوص. بل أيضا يقدر الظروف المحيطة, سواء كانت عوامل نفسية أو وراثية أو تربوية أو عوامل اجتماعية.. أما الذي يصب اللعنات على كل مخطئ, دون أن يقدر ظروفه أو يفحص حالته, فإنه قلب لا يرحم..
> أيضا القلب العطوف دائما يعطي.. وهو يعطي في حب, وباستمرار, ودون أن يطلب منه, بل بدافع داخلي.. إنه دائم التفكير في احتياجات الناس ليقوم بها, دون أن يقولوا له.
> هذا القلب العطوف يريد أن يريح الناس وأن يسعدهم. وإن وضعت في يده مسؤولية, يستخدمها لراحة الناس. وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أية إمكانية, فإنه يستخدمها أيضا لأجل راحة الناس, كل الناس.
> والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام, إن عرف أن هناك شخصا في تعب أو احتياج. بل يظل يفكر ماذا تراه يفعل لأجله. لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذي أحدا, لأنه يتألم لآلام الناس أكثر من تألمهم هم..
> والقلب العطوف يعطي من حبه وليس من مجرد جيبه, ويشعر الآخذين من عطائه أنه إنسان محب, وليس مجرد محسن. وهو يعطي الكل. ولا يقتصر علي الأصدقاء والأحباء وذوي القربي أو أخوته في الدين والمذهب, بل هو يريح الجميع.
> وهو يعطي بكور إيراداته, أي أوائل ما يصلح إليه لكي يبارك الله الكل. يعطي المرتب الأول الذي يتقاضاه, العلاوة الأولى, وأول ما يصل إليه من إيراد. فالجراح مثلا يعطي أجر أول عملية يجريها. والطبيب يعطي أجر أول كشف. والمدرس يعطي أجر أول درس خصوصي. والصانع يقدم أجر أول عمل يقوم به. والزارع يعطي أول حصيد أرضه, وأول ثمر شجره. كل ذلك يقدم عطية للمحتاجين والمعوزين..
> وأجمل ما في العطاء أن يعطي الإنسان من أعوازه ليسد احتياج غيره. وفي هذا منتهى الحب والحنو. لأن فيه تزول الذاتية, وتحل محلها محبة الغير, بل تفضيل الغير على المعطي نفسه.
وفي كل هذا, يشعر القلب العطوف بأنه إنما يعطي من مال الله لعيال الله, دون أي فضل من جهته! وكيف ذلك?
في الواقع إننا لا نعطي شيئا من مالنا, بل من الله الذي أعطانا ما نعطيه, وأعطانا أيضا موهبة العطاء. فكل شيء نملكه هو ملك لله. ونحن مجرد وكلاء على ما عندنا من مال, قد استودعنا الله إياه لكي ننفق منه على وجهات الخير, وهو الذي يعطي القلب العطوف ما فيه من عطف وإشفاق.