تحفل كتب التراث الأدبي العربي بالحكايا
والنوادر والطرائف الأدبية على أنواعها. هذه الطرائف التي يطلق عليها اسم
(anecdotes). ومن أشهر الكتب التي تحتوي على هذه النوادر والطرائف, كتب
الجاحظ وخاصة رسائله, والثعالبي في كتابه خاص الخاصّ, والأصفهاني في
الأغاني, والابشيهي في كتابه المستطرف من كل فن مستظرف, والآبي أو ألأبِيّ
في نثر الدرّ او نثر أو نثر الدرر. وغير ذلك الكثير الكثير. ومما يلفت
النظر أن القارئ- قديما وحديثا- حين يقرأ هذه النوادر والطرائف يستسيغها
ويقبل عليها بشغف ويطلب الاستزادة. ومن المعروف أيضا أن مثل هذه الطرائف
والنوادر قد استغلّت في حديثنا وكلامنا اليومي والرسمي كدلالات رامزة أو
صريحة أو كبراهين وإثباتات لقضايا معينة, وذلك لأنها بقدر ما تحتوي عليه
من العمق المعنوي والعِظة والدرس, تحتوي أيضا على التركيز والإيحاء
والتكثيف, وهي في هذا وذاك تلتف بروح ساخرة دعابية تثير بسمة القارئ
وترفعها إلى الشفاه. ومثلما استغلّت هذه الطرائف والنوادر في الحديث
اليومي والرسميّ, استغلّت أيضا في ثنايا الروايات والقصص والحكايا, وذلك
لنفس الغاية التي ذكرناها آنفا ولأنها تزيد من إضاءة النص إضاءة معنوية
ثانيا.
والطرفة/ النادرة كما تعرّفها المعاجم المختصة
هي حدث شخصي محدود أو قصّة قصيرة لا تطمح إلى التسربل بشكل فنّي. وهي تأتي
إما مستقلة وإما داخل حكاية أكبر وأوسع.
وفي تعريف آخر
لها يقول: الطرفة هي القليل الذي يحتوي على الكثير. وهي غالبا تأتي سهلة
مستساغة ممزوجة أو مكسوّة بمسحة من الفكاهة الضاحكة, ولكنها دائما تأتي
محمّلة بدرس أو عظة. أو كما يقول عنها بوبر:هي قصّة لحدث واحد, ولكنّ هذا
الحدث يضيء مصيرا كاملا.
من هنا في رأيي تنبع أهميّة
الطرفة/النادرة, أي من تركيزها وتكثيفها وإيحاءاتها وأيضا من العظة التي
تقدمّها والروح الساخرة التي تلّفها. فالطرفة النادرة تطرح ما عندها بأقل
عدد من الكلمات نثرا أو شعرا. والمتمعّن في هذه الطرائف/النوادر يجد أنها
في النهاية تلخّص تجارب إنسانية كبيرة, وتختصر مساحات واسعة ومسافات كبيرة
في الحياة, هذا من جانب اما من آخر فهي تطال كثيرا من مجالات الحياة
والأدب, من هنا كَثُر توظيفها أدبيا وفنيّا كما كثر استخدامها في المجالس
والمحافل الرسميّة وفي المسامرات الشعبيّة, وقد استفاد الأدب الغربي من
هذه الطرائف/النوادر كثيرا ووظّفها في شعره وفي نثره, وللتدليل على ذلك
يكفينا أن نذكر الفاشيتا, , لبوتشيو, والديكامرون لبوكاتشيو, وحكايات
كنتربري. ولكنّ الأدب العربي يفوق الآداب الغربية في جمال طرائفه وحذق
تركيبها وبراعة إيحائها, ومهارة صياغتها وكل ذلك كي تروق للسامع وتجذبه
اليها, كما تفوق الطرائف الغربيّة في خفة دمها وسرعة وصولها إلى هدفها.
وعلى ما يبدو فأن لغتنا العربيّة أطوع من اللغات الأخرى, وأكثر ليونة
منها, وأسرع استجابة لمثل هذا اللون من القص. وما ذلك إلا لاختلاف
مستوياتها, ولكثرة اشتقاقاتها, ولتلوّن ألفاظها وقرائنها ولغزارة وثروة
انزياحاتها ولغنى مجازها وصريحها.
وما يهمنا في هذه
العجالة ليس البحث في هذا الجانب بقدر الاطّلاع عليه وعلى أهميته. ومن هنا
يرتفع عدد من الأسئلة حول الطرفة/ النادرة الأدبية: هل هي جنس أدبيّ مستقل
بمعنى الجانر له ما يميّزه شكلا ومضمونا عن الأجناس الأخرى؟! ومن ثم هل
لهذا الجنس الأدبيّ وظائف ومهام معينة؟! وهل ما زال هذا اللون يستمدّ
حيويته أم أنه اخذ في التراجع؟! بمعنى إذا بحثنا في أدبنا الحديث اليوم هل
نعثر على هذا اللون مستقلا أو مستغلا في الثنايا؟! والسؤال الكبير الذي
يمكن له أن يرتفع في مثل هذه المساءلة التي نحن بصددها, هل فحص دور هذه
الطرائف/النوادر من حيث أثرها وتأثيرها في نشأة الجانر القصصي عندنا على
أنواعه؟! وبالتالي هل استفاد أدبنا قديمه وحديثه من هذه
الطرائف/النوادر؟! وكيف؟!
بداية أقول إن ما يمكن أن يطرح
هنا من أجوبة على المساءلة المذكورة, ما هو إلا اجتهادات هدفها فتح الآفاق
أمام القارئ أو الدارس, ولفت نظره علّه يجد إمكانية البحث الدقيق في هذا
اللون, مع الملاحظة إلى أن هناك العديد من الدراسات التي حاولت أن تقرب
هذا اللون والتي تقع ضمن دراسات أكاديمية . ولكن على ما أعتقد- وربما أكون
مخطئا- أن هذه الأبحاث لم تأخذ على عاتقها دراسة الظاهرة وما وراءها وما
تحتويه بشكل مستقل بقدر ما بحثت في وجودها في الثنايا أو بقدر ما وظفتها
كبراهين وأدلة.
استمرارا لما ذكر أعتقد أن هذا الجانب
الرائع من أدبنا حقل واسع ما زال بكرا يحتاج إلى الكثير من الدراسة
والفحص, وهو لكثرة ما يحمل من إشارات وأبعاد يشكّل جنسا أدبيا متكاملا له
ما يميّزه شكلا ومضمونا. وربما هناك من يزعم العكس مدعيّا أن هذا اللون
الأدبي قريب جدا من ألوان أخرى, لذلك من الممكن إدخاله ضمن أجناس أدبية
أخرى مشابهة له وأوسع منه, ولكنني أقول انه رغم اقتراب أو تشابه هذا اللون
مع ألوان أخرى, فان هذا الاقتراب لا يلغي تميّزه ولا يضرّ بفرادته
وتفرّده. ونحن إذ حاولنا أن نعدّد في هذه العجالة بعض ميزات هذا الجنس
الأدبي يكفي أن نذكر ما فيه من عناصر تركيبيّة أصبحت ملازمة له حتى التصقت
به والتصق بها على مرّ الزمن, وعلى كثرة ما كتب فيه. ومن أهمّ هذه العناصر
في رأيي: أولا, قضية التركيز على حدث معين شخصي محدود, يجمل تجربة أو خبرا
منقولا على ألسنة الغير أو يدور على شخصيّة ما. وثانيا, قضية التكثيف
والإيحاء. وثالثا, العظة والدرس والمغزى, فكل طرفة/نادرة قوامها ذلك.
ورابعا, قضية الروح الساخرة. وخامسا, قضية الترميز لذلك كثرت في هذا
الجانر الكنايات الرائعة. وينضاف إلى ذلك قضية الخاتمة/النهاية المتفجرة.
فالطرفة/ النادرة تقوم دائما على خاتمة تتجمع فيها كل الخيوط وتتركّز
لتنفجر بالتالي في وجوهنا ولتحملنا الى أجواء ذهنية أو اجتماعيّة أو
أدبيّة جميلة. ومما يلفت النظر أن مثل هذه العناصر تتمازج سوية وتتداخل
وتلتفّ بلغة سردية متوتّرة تثير الزخم وتقوم على المفارقات, وتضارب
المستويات فيها وتصادمها, ومن هنا نجد استساغة القارئ لهذا الجنس الأدبي
وإقباله عليه وشغفه به. ونحن إذا فحصنا حبّنا لهذا الجنس الأدبي نجد أنه
ينبع من جملة من الأمور, أهمها في رأيي: أن هذه الطرائف/النوادر تخاطب
فينا العاطفة حينا, وحينا الغريزة, وفي أحايين أخرى ينبع حبنا لها من
تضارب المستويات اللغويّة/الاجتماعيّة وتصادمها. فنحن حين نقرأ موضوعا
جديّا رسميا يعالج بكلمات عادية تمتح من العادي/اليومي, لا بد لنا من أن
نضحك. أو حين نرى أن الطرفة/النادرة تقوم على شخصيّة من مستوى اجتماعي
رفيع متزاوجة مع شخصيّة أقل منها درجة من الناحيّة الاجتماعية, ترتفع
عندئذ البسمة على شفاهنا. أو حين تتصادم اللغة أحيانا في نصّ يحتوي على
مستوى أدبي معين ممزوج بمستوى أقل منه وربما كان محتقرا في حينه, كمزج
الشعر العربي الكلاسيكي/ الارستقراطي مع لغة المحدثين. أو كمزج العربيّة
الفصيحة الرسميّة بالعاميّة أو بالأعجميّة, أو كالتعبير عن موضوع رسمي
جادّ بلغة غير رسميّة, كل هذا يثير فينا الضحك. ومن هنا فرّق الباحثون في
أدبنا بين نوعين من هذا الأدب: الرسمي وغير الرسمي
(Cannonical- Uncannonicail).