شهدت العقود الثلاثة الاخيرة اهتماما بمسألة اهمية وابعاد خطر الزئبق ومشتقاته العضوية، ولاسيما الزئبق المثيلي، طالما انه ثبت اخيرا ان الاشكال المختلفة للزئبق التي تطرح في البيئة والجو المحيط تتحول الي الزئبق المثيلي (وهو مركب عضوي للزئبق) بفصل بعض الاحياء المجهرية الدقيقة Microorganisms لقد تمت دراسة الآثار الضارة للتلوث بالزئبق بشكل واسع ومعمق في الحالات التالية:
2 ــ في منطقة مينامات في اليابان: حيث تم الكشف عن حالة تخدر الجهاز العصبي المركزي اصيب بها 111 شخصا مات فهم خمسة واربعون ما بين عام 1953 و 1960،.
2 ــ في حادث نيغاتا في اليابان ايضا حيث عولجت ست وعشرين حالة تسمم بالزئبق مات خمسة مصابين من بين هذه الحالات.
ففيما يتعلق بحادث ميناماتا تم اكتشاف تسع عشرة حالة شلل العمود الفقري بين المواليد الجدد للآباء والامهات المصابين والمصابات في ذلك الحادث. ولا غرابة في هذا اذا علمنا ان بعض الباحثين كان قد بين ان الزئبق المثيلي بالذات قادر علي العبور من خلال مشيمة الامهات الحوامل الي اجتهن اثناء فترة الحمل.، كما ان فحوصات كريات الدم الحمراء قد بينت ان تركيز الزئبق في كريات الاجنة يتفوق بمقدار 28% علي تركيزه في كريات دم الامهات.
لقد قدر العمر النصفي البايولوجي للزئبق المثيلي في الانسان بحوالي سبعين يوما (73 + 3) لكن المشكلة هي في مقاومته للتحول في الطبيعة خارج حدود جسم الانسان، وفي بقائه سمي الطبيعة لمدة طويلة هذه هي المشكلة، وهي تختلف عن حالة المواد المشعة ذوات الاعمار النصفية القصيرة حيث انها تتحول بسرعة الي عناصر او مركبات مستقرة اي ليست مشعة وبالتالي لا تحمل اي خطر لأي كائن بشراً كان بشر او حيواناً او نباتاً.
لعل من الطريف معرفة ان السويد كانت هي السباقة في ايلاء موضوع تلوث البيئة بالزئبق هذا الاهتمام والمتابعة المعروفان اليوم. ونتيجة لذلك كشف النقاب عن مصادر الزئبق الملوث للزراعية والصناعة وعلاقة هذا الزئبق بآثاره التي وجدت في الاسماك وباقي الحيوانات البرية المدجنة منها وغير المدجنة والتي يتخذها الانسان غذاء. كما تم العثور علي الزئبق في اطعمة اخري غير الاسماك في كل من الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة وكندا. فلقد بينت دراسات اجريت في هذه البلدان علي اثني عشر صنفا من طعام الانسان المألوف وجود الزئبق فيها بمقدار لا يتجاوز 02% جزء بالمليون. علما ان متوسط التناول اليومي للزئبق في الولايات التحدة الامريكية علي سبيل المثال هو بحدود 25 مايكروغرام تدخل جسم الانسان بالطرق المألوفة مع الطعام او الشراب او الهواء.
رغم ان الزئبق المثيلي قد طغي علي ما عداه من مركبات الزئبق العضوية الاخري، فلقد اجريت الدراسات علي التأثيرات التناسلية، لمركبات غير عضوية اخري للزئبق وكانت ذبابة دروسو فيلا Drosophila Melanogaster وبذور التفاح من بين المواضيع التي اختيرت لدراسة التأثيرات الوراثية والتناسلية عليها، اذ كان التركيز علي الطفرات الوراثية والتغيرات الشاذة التي تطرأ علي سليقة السلالة او النوع. كما تركزت دراسات اخري علي التأثيرات غير التناسلية لمركب هايدروكسيد فنيل الزئبق ونترات فتيل الزئبق علي بعض النباتات المزهرة.
واذا رجعنا ثانية لحادث شواطئ مدينة ميناماتا اليابانية نجد ان التسمم في الاصل كان ناتجا عن كلوريد الزئبق المثيلي CH3HGC1 Methylmercuric Chloride الذي تكون في الطين والوحول وباقي النفايات التي يطرحها بشكل دوري مصنع يستخدم اوكسيد الزئبق مع حامض الكبريتيك كعامل مساعد في صناعة مركب الاسيت الدهايد. هذه الوحول والفضلات المطروحة في شاطيء ميناماتا تسرب الزئبق العضوي فيها الي المياه ومن ثم تركز في الاسماك والمحار. كما يسود الاعتقاد اليوم ان ثمة مصدر ثان للزئبق العضوي في مياه ميناماتا، الا وهو كلوريد الزئبقيك HGCI2 الموظف كعامل مساعد في انتاج مركب كلوريد الفانيل Vinyl Chloride فلقد وجد ان مرض ميناماتا قد ازداد انتشارا مع الزيادة في انتاج كلوريد الفانيل مما حدا بالسلطات المسؤولة الي اتخاذ قرار منع صيد السمك في تلك السواحل. وكانت تلك السلطات علي حق فلقد ظهر عام 1960 ان انتاج عشرين الف طن من مادة كلوريد الفانيل في مصانع ميناماتا كسبب في تسرب الف كيلوغرام من الزئبق الي الوسط المحيط والبيئة.
لقد بات الان من الجلي انه وان كانت تراكيز الزئبق المثيلي واطئة المستويات فان في وسع هذا المركب ان يتراكم بالتدريج في السمك مع مرور الوقت ولعل هذا هو تفسير الظاهرة المسماة اليوم بمرض ميناماتا (الحالات التي تشابه في اعراضها اصابات شاطي ميناماتا اليابانية) واهم اعراضها كما مر سابقا خدر الجهاز العصبي المركزي وشلل العمود الفقري. فكل اصابة من هذا النوع تسمي مرض. ميناماتا بصرف النظر عن زمانها ومكانها. اما في الانهار العذبة فيحصل تراكم الزئبق اساسا في الطحالب والاشناب والبلانكتون التي تعتبر غذاء ممتازا لأسماك النهر وبالتالي ينتقل الزئبق الي هذه الاسماك ومن ثم الي الانسان: اكون الدهر .
ومما يثير التساؤل وجود اثار من الزئبق المثيلي في سمك بحار ومناطق جد نائية عن مصادر التلوث بالزئبق كالمحيط الهندي والمحيط الهادي وبحر بيرنغ والساحل الافريقي. اما هذا الامر فيفسر اما بقدرة الاسماك علي الهجرة البعيدة المترامية الاطراف اذ يمكنها الاقتراب والعيش ولو لفترة من الزمن في المياه الملوثة او بالقرب من مصبات الانهار الاسيوية والافريقية والاوروبية الشهيرة التي تنقل تصاريف مياه المعامل والمصانع الكبري الواقعة علي ضفا فها، او ان الزئبق موجود اصلا في قيعان وصخور وترسبات المحيطات والبحار البعيدة عن مصادر الزئبق. واذا كان الزئبق المثيلي هو الشكل السائد وجوده في الاسماك والانسان فذاك بسبب قدرة بعض الاحياء المجهرية علي تحويل الاشكال الاخري للزئبق الي هذا الشكل العضوي ذي الخصائص المتفردة. واحدي هذه الخصائص قدرته علي الارتباط باغشية الخلايا العصبية واختزال محتوي الحامض النووي RNA في هذه الخلايا وخاصة خلايا المخيخ وجذور العقد العصبية الظهرية. كما ان الزئبق المثيلي قد وجد في شعر رؤوس ضحايا ظاهرة مرض ميناماتا اينما كانوا وخاصة صيادي الاسماك الفرنسيين علي سواحل المتوسط.
واكثر من هذا فالزئبق المثيلي موجود حتي في شعور رؤوس اناس لم يتعاملوا قط مع الزئبق موجود في شعورهم بصرف النظر عن الجنس والعمر والوظيفة وان كانت مقاديره اقل من تلك الموجودة في ضحايا مرض ميناماتا. وكما كان متوقعا فلقد وجد مركب الزئبق العضوي فنيل الزئبق Phenylmercury في اوراق نباتات الرز التي رشت ببخار هذا المركب في طور من اطوار نموها كعامل مضاد للحشرات. ووجد كذلك في حبات الرز ذاتها.