يسألني الكثيرون من أكون، ولم أكتب وأصمت وأختفي بين ثنايا الكلمات ولا أظهر إلا لأبتسم ثم أرحل. يسألونني من أين قدمت وإلى أين أتوجه، ويحيرون في تسميتي وإلى أي فئة من الرجال ينسبونني. لا أظهر إلا نادرا ولا أحرك شفاهي إلا لأهمس بكلمات معدودة ثم أطبقها كأنني أخشى أن أفضح سرا أو أدلي باعتراف يورطني في حوار طويل متعب ومرهق. يسألونني لم لا يزال وجهي يحتفظ بملامح الطفولة، كأنني أرفض أن أكبر وتنطفئ أحلامي وشموعي الصغيرة التي كلما سكَنت نار إحداها ركضتُ وأشعَلتُ أخرى وإن أحرقت الأصابع. يسألونني عماذا أبحث. عن معنى الوجود والعدم. أحيانا أجده وأحيانا أفقده وأتيه من جديد في مسيرة البحث إلى أن أدركت عبث المحاولة، وأن بحثي لا يجدي نفعا. فأعود إلى نفسي لأبدأ رحلة البحث من وإلى دواخلي. لا أحترف ترتيب الكلام، لذلك أجده ينساب من قلمي كماء رقراق، لازلت أكتب على الورق قبل أن أواجه الحاسوب، ما إن أنهي هذياني حتى أمزق الأوراق أشلاء، وكأنني أتخلص من عبء الكلمات التي تجثم على صدري المتسع ضيقا. أحيانا أخطئ وأحيانا أصيب، وقد أظلم وأعترف بخطئي وألتمس العفو بصمت. لا أرد لا تلميحا ولا تصريحا. لا أحب قول كل شيء، فبيني وبين العالم حوار سري صامت دائم. لا تكفيني الكلمات للتحاور. أحب أن أقرأ ما تجود به العيون وما تنبض به القلوب وما يختزنه الجسد. يسألونني من أكون.رجل لا يحب الأوامر، لكنه قد يطيع. لا يحب الانتظار، لكنه قد يقف خلف نافذة الزمن ساعات، يترقب قدوم صديق. لا يحب الهاتف، لكنه قد يلازمه لسماع صوت متقطع قادم من بعيد. رجل يحي على إيقاع الأحلام وليس على عد الأرقام. يسألونني عن كل شيء. عن أحلامي وأحزاني وجراحي ونجاحاتي وإخفاقاتي، عن أسفاري وأعمالي. يسألونني عنها.. عن تلك التي أكتب أحيانا عنها ولها. فأدخل في لعبة الكشف والإخفاء. أحيانا أجيب بسؤال وأحيانا أجيب بدون كلام. هناك سؤال يقبع بذاكرتك، وهناك آخر سرعان ما تنساه. الأسئلة كالأشخاص، بعضهم يسكنك وبعضهم يخترقك كشبح. وأسئلتي لا أطرحها بعلامة استفهام، بل أدسها بين الكلمات وقلما أنتظر الجواب باللسان. أحب قراءة ما بين الردود وما بين حروف الكلمات وما بين الآهات وما بين طيات الزمن. فالزمن أكبر مجيب عن أصعب الأسئلة وأكثرها تعقيدا. من أكون؟ كيف لي أن أختصر روحي في كلمات. أحيانا، نعتقد أن هويتنا هي بطاقة التعريف أو جواز السفر أو شهادة العمل. نحسب أيامنا بعمرنا وقيمتنا بممتلكاتنا وجهدنا برصيدنا البنكي. نتصور أن كل وجودنا عبارة عن أرقام. نربط أصلنا بمسقط رأسنا وبوطن نستنزفه وندمره ونعلن حبنا له أناشيد وأغاني ركيكة نحفظها وننساها ونركنها جانبا إلى حين. يسألونني من أكون. أنا ما لا يُرى و ما لا يُقال.. ما لا يُباع وما لا يُشترى.. ما لا يُساوم وما لا يُستباح.. لا أطأطئ رأسي إلا عاشقا ولا أنحني إلا لتمر العواصف ولا أركع إلا للخالق. لا تسعدني آلام الناس ولا تغريني جلسات النميمة. لا تعجبني خصلات الشعر الناعمة الهادئة ولا عبارات الحب المصطنعة . أنا سيد نفسي. فهل يا ترى يكفي هذا كجواب؟