يستحسن قبل البدء بالحديث عن آداب طالب العلم أن نتحدث بشيء من الإجمال عن فضل طلب العلم ومنزلة العلماء وعظيم قدرهم عند الله سبحانه,وما ورد في هذا المقام من آيات قرآنية ,وأحاديث نبوية , وأقوال للصحابة الكرام, والسلف الصالح.
ولا شك أن إدراك طلاب العلم للشرف العظيم الذي ينالونه بطلبهم للعلم , والمكانة العالية التي يحظون بها , يجعلهم أكثر حرصا ً على سلوك طريق العلم والتعلم , والتأدب بالآداب الشرعية التي تزيد من مكانتهم وفضلهم عند الله سبحانه , وتعلي من قدرهم , وتحقق انتفاع الناس بهم
وفيما يلي نستعرض بإيجاز ما ورد في الحث على طلب العلم ومنزلة العلماء ,وما أعد الله لهم من الأجر العظيم , والفضل الكبير.
1)- الآيات القرآنية في فضل طلب العلم ومنزلة العلماء:
قال الله تعالى مبينا ًفضل العلماء ومالهم من مكانة ورفعة: ((قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب)) وقال سبحانه: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)) ورفع الدرجات يدل على عظيم الفضل , ويشمل الرفعة المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت , والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة .
ومما يدل على فضل العلم ووجوب الإستزادة منه قوله تعالى آمرا ً رسوله صلى الله عليه وسلم: ((وقل رب زدني علما ً)) , والله سبحانه لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الإزدياد من شيء إلا من العلم , والمراد بالعلم هنا العلم الشرعي الذي يفيد معرفة العبد لربه سبحانه , ومعرفة مايجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته.
وقد شرف الله العلم والعلماء بما يمنحهم من خير عميم بقوله سبحانه : ((يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا ً كثيرا ً وما يذكر إلا أولوا الألباب)).
قال مجاهد:يؤتي الحكمة أي:العلم والفقه.
ومما يؤكد أهمية العلم وضرورة طلبه قوله تعالى : ((فاعلم أنه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)) فبدأ بالعلم قبل العمل –كما قال الإمام البخاري- .
والعلم النافع له ثمرات عظيمة أبرزها تحقق صاحبه بالخشية من الله سبحانه , فالعلماء أشد الناس خشية من ربهم , لما تعلموه من العلم الذي يزيد معرفتهم بربهم ويرسخ الإيمان في قلوبهم , قال تعالى : ((إنما يخشى الله من عباده العلماء)).
والعلماء هم أهل الإدراك السليم والفهم العميق , قال تعالى : ((وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)).
والمتأمل لآيات القرآن الكريم يدرك منزلة العلم والعلماء , وما ورد في شأنهم من آيات كثيرة ذكر فيها العلم ومشتقاته والفهم والإدراك , والحث على النظر والتفكر , وإعمال العقل وغير ذلك.
2)-الأحاديث النبوية في طلب العلم ومنزلته:
كتب الهدي النبوي حافلة بمئات الأحاديث الشريفة التي يأمر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم ويحض عليه , ويبين منزلة العلماء وشرفهم , وماينبغي لهم أن يتخلقوا به ويحرصوا عليه.
ففي صحيح البخاري-مثلا ً-أكثر من مائة حديث في العلم وطلبه والحث عليه , وقد أفرد لها الإمام البخاري كتابا ً خاصا ً في صحيحه جعله بعد كتاب الإيمان وسماه كتاب (العلم) , وقسمه إلى أبواب كثيرة تتضمن فضل العلم والرحلة في طلبه وكتابته وحفظه وفهمه والإنصات للعلماء والحياء في العلم ونحو ذلك.
وكذلك كتب السنة الأخرى فيها عدد كبير من الأحاديث المرفوعة ولآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين , وكلها تشير إلى المكانة العظيمة التي يتبوؤها العلماء , والمنزلة السامية التي يكرم الله بها طالب العلم.
ولنستعرض بإيجاز أبرز هذه الأحاديث النبوية:
1)-عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيرا ً يفقهه في الدين)).
فالفقه في الدين من أعظم الخير الذي يوفق الله ليه عباده .
2)-وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ً , فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير , وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا , وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً,ولا تنبت كلأ؛فذلك مثل من فه في ين الله ونفعه مابعثني الله به , فعلم وعلم , ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)) .
وفي هذا الحديث توجيه نبوي للحرص على العلم والتعلم , وهو مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه , ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث :
فمنهم العالم العامل المعلم , فهو بمنزلة الأرض الطيبة ,شربت فانتفعت في نفسها , وأنبتت فنفعت غيرها .
ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل به أو لم يتفقه فيما جمع , لكنه أداه لغيره, فهو بمنزلة (الأجادب) وهي الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به.
ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره , فهو بمنزلة( القيعان) وهي الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء , ولا تنبت الكلأ.
وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بالعلم وإن تفاوتت مراتب هذا الانتفاع , وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم الانتفاع بها.
ولا شك أن الفارق كبير بين من يسلك طريق العلم فينفع نفسه وينتفع الناس به , وبين من يرضى بالجهل , ويعيش في ظلماته , فلا يحظى بأي نصيب من ميراث النبوة.
3)-وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقاً يطلب فيه علما ً , سلك الله به طريقا ً من طرق الجنة , وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم , وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء , وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب , وإن العلماء ورثة الأنبياء , وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ً ولا درهما ً , إنما ورثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر)).
وفي هذا الحديث بيان التكريم العظيم الذي يناله طالب العلم , فالملائكة تضع له أجنحتها تواضعا ً وتوقيرا ً, والمخلوقات الكثيرة في السماوات والأرض والبحار والتي لا يعلم عددها إلا الله سبحانه وتعالى , كلها تستغفر لطالب العلم وتدعو له , ويكفي طالب العلم فخرا ً أنه يسعى للحصول على ميراث النبوة , ويترك أهل الدنيا لدنياهم التي اجتمعوا على فتاتها وشغلوا بحطامها وتكالبوا عليها .
4)-وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه , فرب مبلغ أوعى من سامع)) .
وهذا بلا شك فضل عظيم لطالب العلم , أن يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم بالنضارة والبهاء لما يقوم به من تعلم العلم وحفظ الحديث , وتعليمه وروايته , وهو مأجور على التبليغ وإن خفيت عليه بعض معاني الروايات التي يحدث بها , لأنه يحفظها ويبلغها بصدق .
قال الإمام ابن القيم : ((النضرة هي البهجة والحسن الذي يكساه الوجه من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له)).
فما أعظم الخيرات التي تنصب كالغيث من الثواب والحسنات وتستمر بلا انقطاع مادام علم هذا العالم يتناقله تلاميذه جيلاً بعد جيل , وكتبه ومؤلفاته ينتفع بها العباد في شتى البلاد.
وهكذا يبقى أجر العالم وثوابه متصلاً بعد موته بسبب العلم الذي تركه للناس ينتفعون به.
3)-أقوال مأثورة في فضل طلب العلم عن الصحابة والسلف الصالح:
عن علي رضي الله عنه أنه قال: ((العلم خير من المال , العلم يحرسك وأنت تحرس المال , العلم حاكم والمال محكوم عليه , مات خزان الأموال وبقي خزان العلم ,أعيانهم مفقودة ,وأشخاصهم في القلوب موجودة)).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول إذا رأى الشباب يطلبون العلم: ((مرحبا ً بينابيع الحكمة , ومصابيح الظلم , خِلْقَانْ الثياب , جدد القلوب , حبس البيوت , ريحان كل قبيلة)).
أي أن غالب صفتهم الإنشغال بطلب العلم والمكوث في البيوت للمذاكرة والدراسة, وهذا يشغلهم عن الإهتمام بأناقة الثياب والتجول في الطرقات كما يفعل غيرهم من الشباب.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عند قال: ((تعلموا العلم ,فإن تعلمه لله خشية, وطلبه عباده, ومذاكرته تسبيح, والبحث عنه جهاد , وتعليمه لمن لايعلمه صدقة , وبذله لأهله قربة , لأنه معالم الحلال والحرام , ومنار سبل أهل الجنة, وهو الأنس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة , والدليل على السراء والضراء , والسلاح على الأعداء , والزين عند الأخلاء , يرفع الله به أقواما ً فيجعلهم في الخير قادة وأئمة , تقتص آثارهم ويقتدى بأفعالهم وينتهى إلى رأيهم , ترغب الملائكة في خلتهم , وبأجنحتها تمسهم , يستغفر لهم كل رطب ويابس , وحيتان البحر وهوامه ,وسباع البر وأنعامه,لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم , يبلغ العبد من العلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة , التفكر فيه يعدل الصيام, ومدارسته تعدل القيام , به توصل الأرحام ,وبه يعرف الحلال من الحرام,هو إمام العمل والعمل تابعه, ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء))
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ((إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبال تهامة , فإذا سمع العلم خاف ورجع وتاب , فانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب , فلا تفارقوا مجالس العلماء)).
وقال أيضا ًرضي الله عنه: ((أيها الناس عليكم بالعلم فإن لله سبحانه رداءً يحبه , فمن طلب بابا ً من العلم رداه الله بردائه , فإن أذنب ذنبا ً استعتبه لئلا يسلبه رداءه ذلك حتى يموت به)).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : لأن أتعلم مسألة ً أحب إلي من قيام ليلة.
وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : لأن أتعلم بابا ً من العلم فأعلمه مسلما ً أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها في سبيل الله.
وعن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال : ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
وأما ماقيل في شأن العلم ومنزلته من أبيات الشعر فهو أكثر من أن يحصر , ويجدر بنا مثلا ً أن نذكر قول الشاعر:
ماالفخر إلا لأهل العلـم إنهمـوعلى الهدى لمن استهـدى أدلاء
وقدر كل امرء ماكـان يحسنـهوالجاهلون لأهل العلـم أعـداء
وقــــول الـشــاعــر:
يعد رفيع القوم من كان عالمـاًوإن لم يكن في قومه بحسيـب
وإن حل أرضا ً عاش فيها بعلمهوماعالـم فـي بلـدة بغريـب
وقول الإمام الشافعي رحمه الله:
تعلم فليس المرء يولـد عالمـا ًوليس أخو علم ٍكمن هو جاهـل
وإن كبير القوم لا علـم عنـدهصغير إذا التفت عليه الجحافـل
وإن صغير القوم إن كان عالما ًكبير إذا ردت عليـه المحافـل
يــــتــــبــــع.....