تحت عنوان "التعذيب في مصر.. ظاهرة بلا رادع"، أصدرت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان تقريراً هو الأول من نوعه عن جريمة التعذيب في مصر خلال عام 2004م ، تناولت فيه بالرصد والتوثيق مجموعة من الحالات النموذجية للتعذيب وسوء المعاملة داخل مراكز وأقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز، وحالات وفاة ناجمة عن التعذيب، و قد اعتمد التقرير في مادته على الشهادات الحية لضحايا التعذيب وشكاوى وبلاغات أهالي الضحايا للمنظمة، والتي قامت وحدة العمل الميداني بالمنظمة بتوثيقها استناداً إلى محاضر تحقيقات النيابة العامة والتقارير الطبية التي وثقت آثار الإصابات الناجمة عن التعذيب.
وقال التقرير الذي تسلم مراسلنا بالقاهرة نسخة منه: "تعاني مصر من ظاهرة التعذيب بصوره المختلفة، ورغم إعلان الحكومة المصرية عن نيتها في تحسين وضعية حقوق الإنسان وتبني حزمة من الإصلاحات السياسية، إلا أن هذه الظاهرة لم تمس، حيث استمرت ممارساتها في أقسام ومراكز الشرطة والسجون، وشجع عليها غياب الرادع الكافي لمرتكبيها، وعدم وجود النصوص التشريعية الرادعة ضد من ثبت تورطهم في هذه الجريمة".
وأوضح التقرير أن التعذيب في مصر قد أصبح ظاهرة تقع على نطاق واسع داخل أقسام ومراكز الشرطة ومقارّ مباحث أمن الدولة، إضافةً إلى السجون؛ بهدف الحصول على اعترافات من أشخاص متهمين أو تدور حولهم شبهات بارتكاب جرائم أو بحق أقاربهم للاعتراف بها، أو بحق رهائن من أقارب المتهمين في حالة عدم العثور على المتهم أو المشتبه فيه!!
وأضاف التقرير أن هذا الحملات المنظمة من التعذيب، تأتي على الرغم من الحماية التي يضيفها الدستور المصري على المواطنين من التعذيب وفقًا لنص المادة 42 التي تنصّ على أن كل مواطن يُقبَض عليه أو يُحبَس أو تقيَّد حريته بأي قيد تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان، ولا يجوز إيذاؤه بدنيًّا أو معنويًّا، كما لا يجوز حجزه أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون، وتصديق الحكومة المصرية على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب عام 1986م.
ويأتي تقرير "التعذيب في مصر.. ظاهرة بلا رادع" في إطار حملة المنظمة المتواصلة من أجل وقف جريمة التعذيب في مصر ومعاقبة مرتكبيها، وتحسين معاملة المواطنين واحترام حقوقهم وحرياتهم داخل أقسام الشرطة وغيرها من مراكز الاحتجاز، وتهدف المنظمة من ورائه الوقوف على حجم الظاهرة، وحث الحكومة المصرية على اتخاذ إجراءات جادة وعاجلة، سواء كانت تشريعية أو عملية من أجل الحد من تفاقم جريمة التعذيب تماشياً مع الدستور والقانون والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتقديم المسؤولين عنها إلى ساحة العدالة، وكذلك مراعاة الضمانات القانونية الكفيلة بحماية حق المحتجزين في السلامة البدنية والنفسية والعقلية الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وفي الاتفاقيات الدولية لمناهضة التعذيب، وغير ذلك من الاتفاقيات والإعلانات والتوصيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
وجاء التقرير متضمناً الأقسام التالية:
القسم الأول: حجم الظاهرة وبعض حالات التعذيب
ويتناول المتابعة الميدانية لظاهرة التعذيب في مصر خلال المدة من أبريل 2003م- أبريل 2004م، وفي هذا الإطار، رصدت المنظمة (41) حالة تعذيب داخل أقسام ومراكز الشرطة بينها (15) حالة وفاة توافرت لدى المنظمة شكوك قوية أنها نتيجة التعذيب وإساءة المعاملة.
كما يتناول هذا القسم من التقرير قراءة تحليلية لظاهرة التعذيب في مصر خلال المدة من1993م-أبريل 2004م، وفي هذا الإطار رصدت المنظمة حوالي (412) حالة تعذيب من بينها (120) حالة وفاة توافرت لدى المنظمة شكوك قوية أنها نتيجة التعذيب وإساءة المعاملة.
ورغم رصد المنظمة المصرية لاتجاه الحكومة بإحالة قضايا التعذيب إلى القضاء منذ عام 2000م، فإنه يلاحظ إصدار أحكام قضائية مخففة على المتهمين في قضايا التعذيب بسبب القصور التشريعي في مواجهة ظاهرة التعذيب.
القسم الثاني: أسباب استشراء التعذيب في مصر.
ويضم هذا القسم العوامل القانونية والإجرائية والأمنية التي تسهم بشكل أو بآخر في توفير بيئة خصبة لانتشار التعذيب في مصر، جاعلة منها ظاهرة لها ما يدعمها سواء على المستوى القانوني أو على مستوى تواطؤ بعض الأجهزة الأمنية.
القسم الثالث: جهود المنظمة لإيقاف ظاهرة التعذيب والتوعية بخطورتها.
القسم الرابع:الخاتمة والتوصيات:
وتشتمل على تعليق المنظمة على جريمة التعذيب في مصر من واقع الحالات الموجودة في التقرير.
ولا يمثل التعذيب في مصر جريمة عادية يرتكِبها رجال الشرطة في الأقسام والمراكز والسجون، بل أضحى في السنوات القليلة الماضية-ومازال- ظاهرة تستدعي التوقف عندها من أجل إيجاد الحلول الفعالة والعاجلة لمواجهتها، فالتعذيب قد أصبح سياسة منهجية معتمدة على نطاق واسع من قبل ضباط الشرطة في استجواب المتهمين والمشتبه فيهم خلال المراحل الأولية للتحقيقات التي تجري بمعرفتهم في أقسام الشرطة، كما أن التعذيب لم يعد قاصراً على المتعقلين والمعارضين السياسيين، بل امتد ليشمل المواطنين العاديين، وهذا ما تؤكده تقارير المنظمات الحقوقية الدولية.
تقرير "وباء التعذيب في مصر":
جاء في تقرير منظمة هيومان رايتس ويتش الصادر في شهر فبراير 2004م تحت عنوان "وباء التعذيب في مصر"على أن التعذيب ظاهرة مستمرة واسعة النطاق في مصر، فقوات الأمن والشرطة دأبت على تعذيب المعتقلين أو إساءة معاملتهم خصوصاً في أثناء التحقيقات، فالتعذيب لم يعد قاصراً على المعارضين السياسيين فقط، بل صار متفشياً كالوباء خلال السنوات الأخيرة، حيث يكابده عدد كبير من المواطنين العاديين الذين يجدون أنفسهم في الحبس في أقسام الشرطة كمشتبه فيهم أو في إطار تحقيقات جنائية.
وقد طالبت هيومان رايتس ويتش الحكومة المصرية بالاعتراف باتساع نطاق جريمة التعذيب في مصر وعواقبه الخطيرة على المجتمع، وبفتح نقاش عام واسع وداخلي حول أسبابه وحلوله.
وكانت منظمة العفو الدولية قد ذكرت هي الأخرى في تقريرها لعام 2003م أن التعذيب قد تفشى في مصر على نحوٍ منظم في مراكز الاعتقال، أما بالنسبة لضحايا التعذيب فأكدت (أمنستي) أنهم ينتمون إلى مختلف فئات المجتمع، ومن بينهم نشطاء سياسيون وأشخاص قُبض عليهم في إطار تحقيقاتٍ جنائية.
ومما يجعل التعذيب ظاهرة في المجتمع المصري، مجموعة من العوامل القانونية والإجرائية والأمنية التي توفر بيئة خصبة لانتشار التعذيب، هذا بخلاف تقييد يد ضحايا التعذيب في تحريك دعاواهم عن طريق الادعاء المباشر، فالمسلك الوحيد أمام هؤلاء الضحايا هو التعويض المدني، فالمساءلة الجنائية والتأديبية لمرتكبي جرائم التعذيب منصوص عليها من الناحية النظرية فقط، ولا تطبق عملياً إلا في أضيق الحدود، فالفقرة الثانية من المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية قد حظرت على المدعى العام بالحق المدني إقامة دعواه بطريق الادعاء المباشر في حالة ما إذا كانت الدعوى موجه ضد موظف عام أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط بجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها.
قراءة تحليلية لظاهرة التعذيب خلال المدة 1993م-أبريل 2004م
رصدت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وقوع 292 حالة نموذجية للتعذيب على مدار 11 عاماً تبدأ من عام 1993م وحتى أبريل 2004م، وكذلك 120 حالة وفاة ناجمة عن التعذيب خلال نفس المدة.
وكانت الأعوام 2000، 2001، 2002م أقل السنوات شهوداً للتعذيب، فقد وصلت أعداد حالات التعذيب ( 13، 14، 12) على التوالي، ورغم رصد المنظمة المصرية لاتجاه الحكومة بإحالة قضايا التعذيب إلى القضاء منذ عام 2000م، إلا أنه يلاحظ إصدار أحكام قضائية مخففة على المتهمين في قضايا التعذيب بسبب القصور التشريعي في مواجهة ظاهرة التعذيب، ولكن ظاهرة التعذيب عاودت للارتفاع في عام 2003م، فقد بلغت حوالي 45 حالة.
وبعد ذلك يأتي عام 1994م، فقد وصل عدد حالات التعذيب إلى حوالي 33 حالة، وقد ارتبطت مدة التسعينيات بتصاعد موجة الاعتقالات من قبل السلطات المصرية في ضوء تصاعد أعمال العنف بين الجماعات الإسلامية وقوات الأمن المصرية.
وهناك جملة من العوامل القانونية والإجرائية والأمنية تسهم بشكل أو بآخر في توفير بيئة خصبة لانتشار التعذيب في مصر، جاعلة منها ظاهرة لها ما يدعمها سواء على المستوى القانوني أو على مستوى تواطؤ بعض الأجهزة الأمنية، ولعل أهم تلك العوامل:
أولاً: استمرار حالة الطوارئ
يشكل العمل بقانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958م بيئة خصبة لانتشار التعذيب في مصر، فهو يوفر الضمانات الحمائية لمرتكبي جرائم التعذيب، فالمادة (3) من القانون تنص على "لرئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ أن يتخذ التدابير المناسبة للمحافظة على الأمن والنظام العام، وله على وجه الخصوص، وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة والقبض على المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام واعتقالهم والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية...".
ثانياً: قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937م
يتضمن قانون العقوبات العديد من المواد المثيرة للجدل والنقاش ومحل انتقاد العديد من المنظمات الحقوقية والمنظمة المصرية، لكونها تمثل مرتاعاً خصباًَ لانتشار جريمة التعذيب وتسهل إفلات مرتكبيها من العقاب، وتتمثل تلك المواد في:
1-المادة (126) والتي لا توفر الحماية الجنائية اللازمة والفعالة لحق الإنسان في السلامة البدنية والذهنية، فهي تواجه فقط حالة التعذيب الواقع على المتهم بقصد حمله على الاعتراف أما إذا وقع التعذيب من موظف عمومي وفقاً لمفهوم المادة 126- على غير المتهم أو على المتهم بقصد آخر خلال الاعتراف، فلا تطبق في هذه الحالة، بل تطبق القواعد الجنائية العادية.
2- يوفر قانون العقوبات للجاني ضمانات الإفلات من العقوبة بنصه على عقوبات هزلية لا تكفي لردع الجاني، فقد نصت المادة (129) على أن " كل موظف أو مستخدم عمومي وكل شخص مكلف بخدمة عمومية أستعمل القسوة اعتماداً على وظيفته، بحيث إنه أخل بشرفهم أو إحداث آلاماً بإيذائهم يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنية مصري".
3- أن جريمة التعذيب البدنية (مادة 282 عقوبات)، والتي ارتفعت بالعقوبة إلى مصاف الجنايات إذ وقع القبض بدون وجه حق مصحوباً بالتهديد بالقتل، أو التعذيب بالتعذيبات البدنية لم تفرق بين وقوع هذه الأفعال من فرد على فرد أو من سلطة على فرد، وكان من الواجب تشديد العقاب في الحالة الأخيرة باعتبار أن ممثلي السلطة يرتكبون هذه الجريمة ليس بصفتهم الشخصية، بل اعتماداً على سلطات وظيفتهم ومكانتهم.
ثالثاً: مصادرة المدعي بالحق المدني في طريقه للادعاء المباشر أو توفير الحماية القانونية للقائمين على التعذيب.
الفقرة الثانية من المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية أجازت لكل مدع بالحق المدني أن يرفع دعواه بتكليف خصمه مباشرة بالحضور أمامها، لكنها استثنت من ذلك الحالة التي تكون فيها الدعوى موجهة ضد موظف عام أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط بجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، ويشكل ذلك إخلالاً بمبدأ المساواة في إقامة العدل والمساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، كما يضفي حماية على تصرفات رجال الضبط المؤثمة على حساب حرية الأفراد وحقوقهم.
رابعاً: الصلاحيات الواسعة لضباط الشرطة
خول المشرع المصري لضباط الشرطة صلاحيات واسعة غير محدودة لتمكينهم من أداء المهام المنوطة بهم، في الوقت نفسه الذي أخل فيه بالضمانات القانونية للمشتبه فيهم خلال مرحلة الاستدلالات والتحريات التي تقوم بها أقسام الشرطة، الأمر الذي أطلق يد ضباط الشرطة يفتح الباب أمام ارتكاب انتهاكات عديدة بحق المشتبه فيهم.
وفي هذا الإطار تخول المادة (102) من قانون هيئة الشرطة رقم 109 لسنة 1971م لرجل الشرطة "استعمال القوة بالقدر اللازم لأداء واجبه إذا كانت هي الوسيلة الوحيدة لأداء هذا الواجب...".
وتضيف المادة (23) من قانون الإجراءات الجنائية إلى الشرطة الوظيفية التالية: يكون من مأموري الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم... ضباط الشرطة وأمناؤهم والكونستبلات ورؤساء نقط الشرطة..." وغيرها من مواد القانون.
وقد شهد عام 2003م إطلاق المنظمة المصرية لحملتها لمناهضة التعذيب في مصر،والتي اتضح من خلالها أن التعذيب يقوم على خطى منهجية ونمطية، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة تشريعية جادة، وعليه فقد قامت المنظمة خلال عام 2003م بعقد عدة ورش عمل أسفرت عن الخروج باقتراح بمشروع قانون لتعديل بعض المواد الخاصة بالتعذيب في قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية، وقد ركز مشروع القانون على المحاور التالية:
-جريمة التعذيب في القانون المصري وتعديلها طبقاً للمواثيق الدولية حتى تشمل تعريف جريمة التعذيب، بما يتفق وما ورد في اتفاقية مناهضة التعذيب والتي وقعت عليها مصر عام 1986م ذلك بهدف مواجهه ظاهرة الإفلات من العقاب.
-تغليظ العقوبة ضد مرتكبي جرائم التعذيب وعدم جواز استعمال الرأفة والظروف المخففة للعقوبة.
إعمال حق الضحايا في تحريك الدعوى الجنائية المباشرة ضد مرتكبي جريمة التعذيب وتضمن المشروع على سبيل الحصر تعديل المواد 126، 129، 280 من قانون العقوبات والمواد 63، 232 من قانون الإجراءات الجنائية1.