1. استهلال إن ظاهرة فشل إصلاحات التعليم في المغرب جعلت الجميع اليوم أمام مسؤولية عظمى تقتضي ضرورةً امتلاك كامل الجرأة المسؤولة للقول الفصل في قضية يتعلق بها مصير المغرب والمغاربة الذين هم في تيهان مهول بسبب نتائج منظومة تربوية تعليمية عجز البيت الداخلي عن التصدي لها، مما دفع بالمسؤولين في لحظات صعبة إلى طلب علاجها من طرف خارجي، ولهذا دلالاته الكبرى.
لقد بات المنهج التوصيفي للأزمة أمرا مملا للغاية حتى أصبح المثقف نفسه، بعد السياسي المناضل والخبير، فاقد الرجاء في أي معنى من معاني إصلاح هذه المنظومة، مما يدل على النفق الحقيقي الذي عليه الوضع العام في المغرب، كما أصبح من الضروري تفادي لحظة الأسئلة عن مصادر هذا الفشل للدخول حتما في مرحلة تشخيصها والبحث الجدي للكشف عن مداخل ومسالك إصلاح حقيقي وبناء.
وبين يدي قرابة نهاية عشرية إصلاح المنظومة التربوية التعليمية على ضوء ما سمي ب"الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، وقد اعتاد المغاربة على تقديم إصلاح كل عشرة سنوات تقريبا، وأمام مبادرة المخطط الاستعجالي لاستدراك ما يمكن استدراكه حين ظهرت كارثة تنزيل هذا الميثاق في سياقات وظروف غير ملائمة كليا لأي إصلاح من النوع المنزل، فإن الضرورة تقتضي الوقوف على العوامل الرئيسة في هذا الفشل الدائم، بل العجز القاتل في التصدي لأخطر قضية في حياة الأمم؛ قضية التربية والتعليم لما لها من علاقة جوهرية بمستقبل الأمة ونوعية الشخصية المستقبلية.
لقد أصبح من الواجب على كل غيور أن يصرخ ولو في واد ليقول بصوت عال: إنه من شديد المنكر وكبيره أن نزيد من ضياع وقت أمة بكاملها بعد حوالي قرن من الإصلاحات الفاشلة!!!
2. مقدمات نقدية للمنظومة التربوية التعليميةأ- معضلة قبضة الدولةفمن التحولات الجذرية الحاصلة في قضية التربية والتعليم في ما بعد الاستقلال السياسي (الصوري) أن قضية التربية والتعليم خرجت من حضن الأمة إلى قبضة الدولة من خلال مؤسسات حكومية أو نظامية (نسبة إلى المؤسسة العليا في النظام السياسي)، حيث كانت محورية في اشتغال الأمة اليومي من قبل لتصبح من أمهات قضية دولة "الاستقلال".
نعم، كانت الأمة في حالة ركود تاريخي شل الحركة العلمية وجعلها قبل فترة الاستعمار المباشر غير ذات جدوى في عمومها، وهو ما سهل عملية انتقال سريع وكلي من منظومة راكدة إلى منظومة منبهرة بما جاء به المستعمر وما تعج به داره في الغرب؛ فرهنت القاعدةُ التي اعتُمدت في صياغة المنظومة التربوية الحديثة في المغرب هذه المنظومة في سياق لايسمح لها بالفعالية والقابلية للإصلاح والتعديل المجديين مما كرس أزمة حادة امتدت إلى جميع شرايين الحياة المغربية بعد حوالي أكثر من نصف القرن.
ب- معضلة قبضة السياسيوعوض أن يتم توفير الإمكانات المادية والبشرية والسياسية الحقيقية لتطوير المنظومة التربوية التعليمية الراكدة وجدت حركة هذه المنظومة نفسها في قبضة السياسي المتحرك وفق أهداف سياسية تستند إلى "إديولوجية" سياسية لا إلى مرجعية الشعب الكلية، وهو ما قلص إلى حد العدم الفضاء المناسب لتتحرك المنظومة الأصلية في اتجاه اكتشاف مواطن ضعفها ومواطن قوتها وتنخرط في عملية تجديد شاملة وأصيلة في اتجاه مستقبل واضح المعالم بناء على نهضة الشعب المغربي العامة لطرد المستعمر.
لقد ساهم حرص السياسي المناضل على قبضته على قضية التربية والتعليم في المغرب في اختناق المنظومة وشل حركتها، مما أقصى فعاليات مهمة وحد من تحقيق الأهداف الأربعة المعروفة المعلنة بداية الاستقلال الصوري (تعميم التعليم، توحيد التعليم، تعريب التعليم، مغربة الأطر).
وتزداد الخطورة وحدة الاختناق لما تكون الوضعية على الصورة المغربية: نظام سياسي له أهدافه واستراتيجياته السياسية، وقوى غايتها سياسية في جوهرها (قلب نظام الحكم أو مجرد المشاركة في أدواته: حكومة، برلمان، وظائف سامية....)، حيث أصبحت المنظومة متحركة ضمن نوع صراع سياسي غامض وملتبس ومرتبك فضلا عن أنه هامشي وثانوي لم يسمح لها بالتفاعل الإيجابي مع القضايا الحقيقية للأمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها:
-غايات كبرى: من وضع النظام السياسي عبر خبرته الطويلة، تشكل مرجعيته السياسية وتضمن نتائج مستقبلية محافظة عليه وعلى وجوده، إذ على هذه القاعدة يوجه صراعه المستمر في التحكم الكامل في أي إصلاح وفي تفاصيل المنظومة.
-أهداف متحركة: يتكلف الموظف السامي والمستشار الملكي والمناضل السياسي من خلال مشاركته في الحكم بتحقيقها أو تغييرها حسب "برنامجه" إن كان له برنامج، أو حسب إرادة الخارج في لحظات الضيق الشديد والضعف الكبير (كما الشأن في لحظة التهديد بالسكتة القلبية حيث أخبر بذلك الملك الراحل، ولحظة تسليم ملف إصلاح التعليم لجهات غربية).
والنتيجة خروج المنظومة من احتضان الأمة بشكل نهائي لتخضع لتقلبات اللحظة ومطالبها السياسية، بل في مناسبات عدة كانت ضحية مزايدات سياسوية وانتخابوية (يُنتبه في هذا الباب لنوع الصراع الذي يصحب إنجاز كل إصلاح)، ولعل صياغة ما سمي ب"الميثاق الوطني للتربية والتكوين" خضعت لهذا تماما بحيث انضاف إلى الصراع الداخلي بين مكونات الميثاق السياسية وغيرها استحضار تصاعد الحركة الإسلامية، مما جعل أهداف الميثاق الحقيقية غامضة وملتبسة ولا علاقة لها بقضايا التربية والتعليم حقيقة. وهو ما يعني أن أي انخراط في تفعيل "الميثاق" يعني تحريك مجال مهم وحيوي ومصيري لتحقيق أهداف ضيقة الأفق ولا علاقة لها بالقضية؛ مما يعني ضرورة العمل الجماعي لأجل تغييره تغييرا كليا بتوفير الظروف السياسية والفكرية والنفسية المؤهلة لذلك.
ت- معضلة غياب القضيةفحينما خرجت المنظومة من أحضان الأمة وسلكت طريقا شاقا وملتويا في سياق اختيارات النظام السياسي الحديثة لم تصبح ذات قضية كبرى، وهو ما أفقدها كل عوامل القوة الأساسية حيث أصبحت تائهة في صحراء السياسة والفكر القزمي، ذلك أن المنظومة التربوية عندما لا ترتكز حركتها وسيرورتها على قضية كبرى هي جوهر اختيار الأمة التاريخي والمصيري تصبح متقلبة بين آليات "تقنية" يُعتقد خطأ أنها كليات مرجعية وما هي إلا جزئيات مبعثرة ترسم صورة مضببة حول المستقبل وآفاقه، لذلك لم تُخرج المنظومة إلا رجالا "تقنويون" موظفون في أحسن الأحوال وعاطلون في أسوئها، بحيث لم تستطع أن ترتبط، على الأقل، بمطالب السوق وحاجاته، فضلا عن أن تخرج كما هائلا ممن يستطيع أن يقود الأمة إلى التغيير والتجديد المطلوبين في كل مرحلة وفي كل مجال.
نخلص، إذن، بهذه المقدمات الثلاثة المشار إليها أعلاه بتركيز كبير إلى أن منظومتنا التربوية التعليمية تطلب ثلاثة مطالب أساسية لإصلاحها إصلاحا حقيقيا، وهو ما يطلب تغييرا كليا وجذريا:
المطلب الأول: أمة قوية عالمة بقضيتها محتضنة لمنظومتها التربوية التعليمية بكل تفاصيلها وعناصرها.
المطلب الثاني: دولة عادلة: خارجة من صلب حركة الأمة في تفاعلها مع كل قضاياها وليست دولة ما هي إلا أداة في قبضة نظام سياسي يقتسم بعض الأدوار مع المناضل السياسي والمثقف العضوي ليسلم قضايا الأمة الجوهرية في لحظات صعبة إلى يد خارجية تملي وتفعل ما تشاء وفق أهدافها واستراتيجياتها في المنطقة وإنسانها.
ومن المعلوم أن دور الدولة تنظيمي تدبيري وليس صانع المنظومة، إذ من معضلات التربية والتعليم في عالم اليوم أن أصبحت أداة كلية في يد مؤسسة جزئية هي الدولة.
المطلب الثالث: قضية جامعة: لها رجالها ومؤسساتها تجتمع عليها الأمة، حيث اختارتها بإرادتها في تفاعل مع كل قواها الحية والصادقة، وتشكل المعيار الكلي والمضمون الحقيقي للمنظومة التربوية التعليمية وحركتها في الواقع والمستقبل.
إن القضية من خلال رجالها هي راعية المنظومة وحارستها وصانعتها في تفاعل كبير مع الأمة.
إن هذه المطالب تشكل ركائز المدخل الحقيقي لإصلاح المنظومة التربوية التعليمية في المغرب، وهو ما يكشف على أن قضية التربية والتعليم في المغرب أصبحت من صلب القضايا التي ينبغي أن تكون موضوع نقاش جامع وبحث ميثاقي في إطار تمريض مرحلة انتقالية تقطع مع كل العوامل الرئيسة في الفشل الدائم لمنظومتنا التربوية التعليمية والاختناق الكلي لحركة مجتمعنا.