فى نشأة الدولة الإسلامية
المبحث الأول
ظهور الكيان الإسلامي
لم يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاد تنظيم سياسي أو تكوين دولة في مكة المكرمة لانشغاله بالدعوة إلى اللَّه وتقرير أصول العقيدة الصحيحة، ولعدم توفر العناصر الضرورية للدولة وهي: الأرض، والشعب، والسلطة.
غير أن هذه الفترة المكية كانت بمثابة التمهيد للفترة المدنية من العهد النبوي، فقد تكونت فيها نواة المجتمع الإسلامي من أولئك الأفراد الذين قبلوا الدين الجديد وآمنوا برسوله، وتقررت فيها قواعد الإسلام الأساسية وخاصة ما تعلق منها بالعقيدة ـ جماع الإسلام كله ـ فوضحت بذلك وجهة الإسلام وسبيله، وبعد أن توفرت مقومات الدولة وعناصرها الأساسية توجه الشعب بالهجرة وتجمع المسلمون من مهاجرين وأنصار، ووجدت الأرض التي تقوم عليها الدولة، ووجدت السلطة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبتجمُّع أصحابه ـ رضوان اللَّه عليهم ـ حوله، فتكونت بذلك الدولة الإسلامية، وأصبح لها كيان دولي، وحينئذٍ مست الحاجة إلى التشريع العملي على أتم صورة، فاتجه الوحي إلى تنظيم الدولة داخليا وخارجيا، فشرَّع لهم الأحكام التي تتناول شئونهم كلها، سواءٌ منها ما يتعلق بحياة الفرد أو الجماعة أو بعلاقة الدولة بغيرها.
وكانت الفترة الثانية تفصيلاً لما أجمل من قواعد الإسلام في الفترة الأولى، ونزلت التشريعات التي احتاجت إليها الدولة الجديدة في الشئون العامة والخاصة على سواء، ونزل الوحي بعدد كبير من القواعد العامة التي تستنبط فيها التشريعات الجزئية التي لم ينص عليها مباشرة في القرآن أو السنة، وما كان ذلك كله إلا للنتيجة الطبيعية لنشوء الدولة الإسلامية الأولى، وتميز المسلمين كافة عن غيرهم ممن عاشوا في الجزيرة العربية خلال هذه الفترة، وهذا الاتصال بين الفترة المكية والفترة المدنية واضح? لكل من استقرأ مسيرة الدعوة الإسلامية وتطورها في عصر النبوة.
ظهور الكيان السياسي الإسلامي:
كان العصر النبوي مرَّ بقسميه مرحلة تأسيس وبناء لكيان الأمة الإسلامية ووضع الأسس العامة التي سوف تحكم مسيرة هذه الأمة على طول التاريخ.
وكان هذا هو الشأن في الناحية السياسية كما كان هو الشأن في كل النواحي الأخرى التي عَرَض لها الإسلام في تشريعاته وتنظيماته، وفي نصوص الوحي وإشاراته.
ولذلك فإن النصوص التي تتعلق بالنظام السياسي في هذه الفترة لا تتعرض للتفصيلات إلا بالقدر الذي تمليه الضرورات العملية للمجتمع المسلم في المدينة فحسب وتكتفي فيما عدا ذلك.
* * *
المبحث الثاني
ممارسة الدولة الإسلامية لوظائفها
وبعد أن استقر أمر الدولة الإسلامية في المدينة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها ومسارعته إلى بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ومعاهدته لليهود المقيمين في المدينة ـ أخذت الدولة تمارس وظائفها وتباشر مهامها التي شملت كل نواحي النشاط السياسي المعروفة آنذاك في مجالاتها المختلفة.
فأقامت العدالة عن طريق القضاء، ونظمت الدفاع وسياسة الحروب في الغزوات التي باشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بواسطة قواد سراياه وبعوثه، وبثت التعليم بين رعاياها ومن انضم إلى الدين الجديد خارج المدينة، كما حدث في اليمن والبحرين وغيرهما، ونظمت موارد الدولة المالية بتنظيم الزكاة، وطرق جبايتها وفق ظروف العصر، وعقدت المعاهدات مع الجماعات التي كانت محاربة لها أو التي اختارت طريق السلم إزاء دعوتها، وأنفذت السفارات إلى العالم الخارجي، فوضعت بذلك أساسًا للعلاقات الدولية حتى تكون الدولة الإسلامية طرفًا فيها.
وعلى هذه الصورة ثبتت دعائم النظام السياسي في المدينة، ورسخت قدم الدولة الناشئة التي ضمت بعد عشر سنوات تقريبًا معظم أنحاء الجزيرة العربية، ودخل في عقيدتها وانضوى تحت حكومتها سكان هذه الجزيرة جميعًا ـ تقريبًا ـ، وقد مارست هذه الدولة الجديدة السلطات التي تمارسها أية دولة في العالم قديمة أو حديثة، وهي سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ، ورغم أن هذه التعبيرات من بدع النظم الدستورية والقانونية في العصر الحديث، إلا أنه من المسلم به: أن الدولة الإسلامية منذ قيامها قد عرفت هذه السلطات الثلاث، وأن ممارسة هذه السلطات قد نظمت وفصلت القواعد الضابطة لها في ضوء المبادئ الأصولية والفقهية التي شرحها فيما بعد الفقهاء المسلمون