لفتت انتباهي مقالة الدكتور أسعد أبو رزيزة التي نشرتها "الوطن" في الأسبوع الماضي بعنوان (خطوط الجهد العالي مصيدة للطيور المهاجرة وخطر على صحة الأطفال) لكونها تنبه إلى الأخطار المحدقة برمز من رموز الطبيعة ألا وهو الطيور المهاجرة، وللأسف فإن حياتنا يمكن تسميتها بجدارة "حياة صناعية" لأنها أبعد ما تكون عن الطبيعية والعفوية وأقرب ما تكون نتائجها إلى الكارثية على الطبيعة والحيوان والإنسان.
مقالة الزميل الكاتب على أهميتها لم تحظ إلا بثلاثة تعليقات، ونسبة التعليقات الضئيلة تدل على أن القارئ - بشكل عام - مهتم بأمور أخرى غير البيئة والحفاظ على مخلوقات الله سواء كانت شجراً أم بشراً أم حيواناً أم جبلاً، والسبب برأيي يعود إلى العادة السيئة التي تتسم بها مجتمعاتنا العربية وهي أننا لا نهتم للخلل من بدايته أو نمنعه قبل حدوثه، وكأن الحكمة التي تقول "درهم وقاية خير من قنطار علاج" لا تعالج أوضاعنا ولا تخص أحوالنا.
التدخين من العادات السيئة الأكثر استفحالا، وهو الضار الأول بصحة الإنسان في بلادنا المسلمة التي لا تنتشر فيها عادة شرب الخمر ولله الحمد، كما أنه من أهم الملوثات لبيئة المنزل أو لأي مكان عام وللمدينة كلها، ومن يخرج صباحاً بغية أن يشم هواء نقياً في بعض المدن لا يستطيع أن يصل إلى غايته، هذا إن لم يستعن بوضع كمامة على أنفه وفمه إذا كان حريصاً على صحته، وذلك بسبب "بركات" الذرات الترابية وروائح الشيشة وسائر الملوثات الأخرى كحرق النفايات وعوادم السيارات وما ينتشر من غازات الصرف الصحي، إلى آخر ذلك مما يجعل كثيراً من المدن تأخذ درجات متدنية في سلم التصنيف من الناحية البيئية رغم أنها ليست بتلك الدرجة من الكثافة السكانية.
يمنع التدخين في الأماكن العامة في كثير من الدول الأوروبية، وعندما طبق القانون في فرنسا اختار بعض المدخنين أن يقضوا إجازاتهم في دولة قريبة لم تحظر التدخين بعد، ومع ذلك فلم تتراجع الحكومة عن القانون، ورأينا في إحدى الفضائيات رجلاً عربي الأصل صاحب مقهى شيشة في باريس يشتكي من هذا القانون لأنه لم يعد لديه زبائن مما أدى إلى انقطاع رزقه، أما المقاهي الأخرى والتي لا تقدم الشيشة عادة فإن بعض المدخنين فضّلوا البرد على الامتناع عن التدخين فلجؤوا إلى المناضد الموضوعة خارج المقهى متدثرين بمعاطفهم الثقيلة، فمتعة التدخين والسيجارة بين أصابعهم تنسيهم -لا شعوريا- ألم لسعات البرد على تلك الأصابع.
بعض الدول العربية الأخرى قد بدأت بحظر التدخين في الأماكن العامة كالأردن، وانفردت صحيفة الوطن يوم الأربعاء الماضي بنشر خبر عن نظام مكافحة التدخين في المملكة، كعقوبات مالية وحق التعويض لغير المدخنين، لكن التوعية يجب أن تأخذ حيزاً أكبر، خاصة توعية المراهقين الذين يقلدون آباءهم - وبشكل أخف أمهاتهم - ومن وقعوا في براثن السيجارة، ولكن تقليد الأولاد لآبائهم لم يعد له المكانة الأولى بعد أن تحولت القدوة إلى أبطال الشاشة، ولا أدري إن كان العلاج بقص الرقيب لمشهد التدخين علاجاً ناجعاً، لأن التدخين ينظر إليه - ربما - على أنه صغيرة مقابل الكبائر التي تلوح على شاشات بعض الفضائيات من كلمات سفيهة ومشاهد ساخنة ومناظر عارية، فماذا سوف يقص الرقيب وماذا سوف يدع؟!
إحصائيات القرن الماضي تقول إن عدد الوفيات بسبب التدخين بلغ 100 مليون شخص، وهي مرشحة في هذا القرن لتصبح مليار شخص، بسبب ارتفاع عدد سكان الكرة الأرضية وازدياد نسبة المدخنين في العالم كله، وكذلك بسبب بدء التدخين في أعمار مبكرة أكثر، وهذا ما يجب الانتباه له لأنه كلما اعتاد الشاب على التدخين مبكراً أصبح التخلي عنه أكثر صعوبة.
لماذا يلجأ المراهق للتدخين؟ يعتقد أكثر المراهقين أن التدخين يدخلهم عالم الكبار بسرعة أكثر، وكأن في التدخين إثباتاً لرجولة المراهق أمام أصحابه، فهو لم يعد طفلا ولذلك لم يعد يخاف على صحته ولم يعد يخشى أبويه، ولو أنه كثيراً ما يلجأ إلى الحيلة كي لا يكون موضع الشبهات أمامهما، فإذا سألت الأم ابنها بعد دخوله البيت وشَمّها لرائحة التبغ من ملابسه: هل كنت تدخن؟ فسرعان ما يجيب بالنفي مبرراً بأن صديقه الذي كان يقود السيارة مدخن، أو أن نادي الألعاب الإلكترونية وصالة البلياردو مملوءان بالمدخنين، وتبدأ الأم بالمراقبة وتحاول أن تخبر الأب أو تخفي عنه حسب شخصيته وعصبيته، والمشكلة كلها تكمن في عدم استقرار نفسية المراهق، وهو طابع عام لجميع المراهقين، ولكن هذا الطابع يختلف بشدته من شخص لآخر.
يشتد هذا اللااستقرار الانفعالي عند المراهق الذي يواجه مشكلة في أسرته أو تراجعاً في دراسته، أكثر من المراهق الذي تتّسم حياته الأسرية بالأمان والحب المحتوي والحوار المتعاطف، وهناك نوع من الآباء يدفعون أبناءهم دفعاً إلى الانحراف بسبب تشديد القبضة عليهم ومراقبتهم بشكل صارخ وفج، ومع صعوبة التعامل مع المراهق كونه ليس طفلا يخضع لأهله ولا راشداً يُعتمد عليه، فإن الآباء لا يُعذرون على جهلهم بأهمية وضرورة الصداقة مع المراهق كي لا يجد في أصدقاء السوء عوضاً عن الانتماء المفقود في البيت.
نشرت صحيفة الشرق الأوسط ليوم الأربعاء الماضي أيضاً أن الأطباء الألمان يعتبرون المدخنين مرضى ينبغي علاجهم، وهذا - برأيي- صحيح إذا وصل إلى حدّ الإدمان، لأن النيكوتين الموجود في لفائف التبغ ينتج نوعاً من الإدمان النفسي والاعتياد الفيزيائي، لكن كثيراً ما يكون المدخن في بداية تدخينه، وأنا أقصد تحديداً المراهقين لأنها آفة موجودة بكثرة بين طلاب المدارس وقد نجدهم يتبادلون السجائر على بعد أمتار من باب المدرسة، فهؤلاء يحتاجون توعية وتثقيفاً بهذا الداء وغيره من مضرات البدن، كالكحول والمخدرات، ولكن تركيزي في هذه المقالة على التدخين لأنه كان سابقاً مسكوتاً عنه من الناحية الشرعية لدى كثير من الفقهاء، وبعد معرفة ضرره وآثاره على المادة والصحة فإنه يجب أن يكون الحكم الفقهي أكثر حزماً، مضافاً إلى ذلك القوانين التي تؤكد على منع تداوله أو مضاعفة أسعاره، وفي أوروبا مثلا تباع علبة الدخان بستة يورو أي ما يعادل أكثر من 30 ريالا، مما يجعله ليس في متناول الجميع.
يجب أن نحيي في أولادنا ثقافة العناية بالصحة والحفاظ على البيئة التي هي بيتنا الثاني، ونحذرهم من التناقض الذي يحصل لدى بعض البالغين، على سبيل المثال شخص مدخن - أو من مدمني الشيشة - ولكنه منتسب لجمعيات أنصار البيئة، فأي بيئة تحافظ عليها وأنت في نفس الوقت لا تتوانى عن إدخال السموم إلى جسدك ونفثها خارجه؟!
من أهم ما جاء في خبر الشرق الأوسط أن نقابة الأطباء الألمانية انتقدت دعوة وجهتها وزارة الصحة إلى الأطباء تطالبهم بنصح المدخنين بضرورة ترك التدخين بسبب مخاطره الصحية، واعتبرت النقابة الدعوة تعاملاً سطحياً مع المشكلة وطالبت البرلمان بضرورة دراسة سبل الوقاية من المرض لدى الشباب بين 12 - 16 سنة، ولاقتناعي بأهمية هذه الدعوة أختم المقالة بها، علماً بأن الوقاية تكون بتهيئة أذهان المراهقين وتعبئة نفوسهم بالنافع من الأمور والممتع في الوقت نفسه، وقد تكون الرياضة الحصن الحصين من العادات السيئة، شرط أن نحرض الأولاد عليها من سن مبكرة.