"باريس ليست معشوقة يتنافس المغرب والجزائر على قلبها".. عبارة قالها
العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني قبل ثلاثة عقود، بُعيد انتخاب
الإشتراكي فرانسوا ميتران رئيسا لفرنسا..
مع ذلك، كان التنافس على "قلب باريس"، ولا زال حتى يوم الناس هذا،
حقيقة قائمة في سياسات الرباط والجزائر، حيث يحاول كل منهما بطريقته
وأسلوبه أن يُعبّر عن عشقه أو تمنّعه، إذا ما أعطته باريس إشارة حب، أو عن
خصامه وعتبه، إذا ما لاحظ ميلا ما للطرف الآخر. الزيارة التي أداها الرئيس
الفرنسي فرانسوا هولاند يومي 19 و20 ديسمبر 2012، أكدت مجددا أن باريس، حتى
وإن نالت منها السنون، لا زالت المعشوقة، لأن الكثير من الملفات لا زالت
عالقة بين الرباط والجزائر، لباريس كلمتها ودورها في تسويتها والإنتقال نحو
آفاق علاقات مغربية جزائرية تتناسب مع ما تقوله قيادات البلدين، على الأقل
بالمواقف الرسمية المُعلنة، من روابط ووشائج التاريخ والجغرافيا والدين
واللغة.
اعتراف بالمعاناة
الرئيس هولاند وصل الى الجزائر العاصمة يوم الأربعاء 19 ديسمبر 2012
على رأس وفد هو الأكبر منذ توليه مهام رئاسة قصر الإليزيه في شهر مايو
الماضي، ضم حوالي 200 شخص بينهم 9 وزراء و 12 مسؤولا سياسيا و40 من رجال
الأعمال وعددا من الكتاب والفنانين، إضافة إلى حوالي 100 صحافي، وهي خطوة
دلت، حسب الناطق الدبلوماسي باسم الرئاسة الفرنسية رومان نادال على
"الأهمية السياسيّة والرمزية والإقتصادية التي يُوليها رئيس الجمهورية لهذه
الزيارة"، على حد تعبيره. برنامج زيارة الرئيس هولاند كان حافلا،
فبالإضافة إلى مباحثاته مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وحضوره معه حفلا
للتوقيع على 8 اتفاقيات تخص قطاعات الدفاع والصناعة والزراعة والثقافة
والتعليم (أهمّها اتفاقية مشروع إنشاء مصنع لسيارات "رينو" في وهران التي
تم التفاوض حولها قبل شهور، حيث يُنتظر أن يُنتج ما لا يقل عن 25 ألف سيارة
سنويا ابتداء من 2014)، كما ألقى خطابا أمام غرفتي البرلمان الجزائري وزار
مدينة تلمسان، حيث تسلم شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة أبوبكر بلقايد.
على أهميته، كانت هذه النشاطات في الدرجة الثانية من الإهتمام بزيارة
فرانسوا هولاند للجزائر، حيث كانت الدرجة الأولى للتاريخ وما سيقوله الرئيس
هولاند بشأن الإستعمار الفرنسي للجزائر والمجازر التي ارتكبتها قواته على
مدار 132 عاما، في ظل إلحاح جزائري بتقديم اعتذار فرنسي رسمي، في ظل
استمرار وجود لوبي فرنسي يُصرّ على المطالبة بتمجيد فترة الإستعمار
للجزائر. الرئيس هولاند الذي قال: "لم آت الى هنا للتعبير عن الندم أو
الإعتذار، جئت لأقول ما هو حقيقة وما هو تاريخ"، وجد مخرجا باعترافه أمام
البرلمانيين الجزائريين بـ "المعاناة" التي تسبّب فيها الإستعمار الفرنسي
الذي دام أكثر من قرن للجزائريين ودعا الى ضرورة قول الحقيقة حول الماضي
"مهما كانت مؤلمة"، كما أكد أنه يعترف بـ "المعاناة" التي تسبب فيها
الإستعمار الفرنسي للشعب الجزائري، وقال حرفيا: "أعترف هنا بالمُعاناة التي
تسبّب فيها الإستعمار للشعب الجزائري"، وذكر بأحداث "سطيف وقالمة وخراطة
التي تبقى راسخة في ذاكرة الجزائريين ووجدانهم"، كما أوضح أنه "خلال 132
سنة (1830-1962) خضعت الجزائر لنظام ظالم ووحشي وهذا النظام يحمل اسما هو
الإستعمار".
متابعة مغربية وتساؤلات
على الطرف الآخر، كان المغرب، الشقيق اللدود للجزائر ومنافسها على قلب
باريس، يقرأ تفاصيل زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر، منذ الإعلان عنها. ومع
أن الجهات الرسمية نأت بنفسها عن التعليق على هذه الزيارة، فقد سجّل
المغاربة أن الرئيس هولاند، هو الرئيس الفرنسي الأول الذي يزور الجزائر قبل
زيارة الرباط، واعتبروه من بين رؤساء الجمهورية الخامسة الأكثر دعما
للجزائر. المغاربة الذين يذكرون أن الرئيس الراحل فرانسوا ميتران،
الإشتراكي على غرار هولاند، الذي تزامن دخوله إلى قصر الاليزيه في يونيو
1981 بأزمة مع مغرب الحسن الثاني، قد زار الرباط في يناير 1983 دون أن يزور
الجزائر، لفتوا أيضا إلى تصريحات أطلقها في بداية ولايته الرئاسية تضمنت
رغبته بالقطع مع مرحلة سلفه ساركوزي، وأنه إذا كان "لـ (الرئيس جاك) شيراك
أسبابه الشخصية لتقديم الدعم غير المشروط للمغرب، لأنه كان يعتبر نفسه شيئا
ما الأب الروحي للملك محمد السادس، فإن الأمر معه سيكون مختلفا، إننا لا
نتبع المغرب مطلقا في تحركه". باريس حرصت على عدم ذهاب الرباط بعيدا في
تفسير "أسبقية" الجزائر، وأعلنت عن زيارة رسمية للرئيس هولاند إلى الرباط
في يناير 2013 كما أرسلت رئيس حكومتها جان مارك ايرول ليترأس رفقة نظيره
المغربي عبد الاله بن كيران الدورة الحادية عشرة للإجتماع الرفيع المستوى
الذي "يُمثل حجر الزاوية في التعاون العميق والمتعدد الأبعاد القائم بين
الرباط وباريس".
الإجتماع شكل أيضا حدثا مُهيكلا للعلاقات القوية والإستراتيجية القائمة
بين البلدين والتي تشمل مشاريع اقتصادية عميقة من جهة ودفاع فرنسي قوي
وملموس عن القضايا المغربية (خاصة قضية الصحراء العنوان الأبرز لتوتر
العلاقات بين الرباط والجزائر التي تدافع عن جبهة البوليزاريو وتدافع عن
مطلبها بدولة مستقلة بالمنطقة التي استردها المغرب من إسبانيا سنة 1976)،
وقد لامست هذه القضية في كثير من الأحيان توترا بين الجزائر وباريس. إذا
كانت الأزمة الإقتصادية والمالية في أوروبا والعالم والإحتياط المالي
الجزائري ومشاريع التنمية الإستراتيجية، تشكل مبررا مفهوما للذهاب الفرنسي
نحو الجزائر، فان العلاقات الإستراتيجية المغربية الفرنسية، تُبقي للرباط
"مكانتها في السياسة الفرنسية"، حسب الباحث والمحلل السياسي المغربي الحسان
بوقنطار.
وفي تصريحات لـ swissinfo.ch يقول بوقنطار: "إن اختيار الرئيس هولاند
الجزائر قبل الرباط لأول زيارة مغاربية رسمية، كاسرا التقليد الذي سار عليه
قصر الاليزيه، لا يعني تغييرا في المواقف الفرنسية تجاه القضايا التي تهم
المغرب أو التي تنسق بشأنها مع المغرب".
باريس.. وسيط هام
كما هو معلوم، فإن قضية الصحراء الغربية أو ما يطلق مغربيا "قضية
الوحدة الترابية"، هي المقياس الذي تعتمده الرباط في علاقاتها الدولية، حيث
تبنت باريس دائما موقفا مؤيدا للمقاربة المغربية للنزاع وحله ولعبت دورا
هاما في تحفيز المغرب على تقديم مبادرته بمنح الصحراويين حكما ذاتيا
بصلاحيات واسعة تحت السيادة المغربية منذ 2007، كما نجحت في تضمين قرارات
مجلس الأمن الدولي ذات الصلة توصيفا للمبادرة المغربية نصّ على أنها "جادة
وذاتُ مصداقية".
في المقابل، اعتبرت جبهة البوليزاريو (ومعها الجزائر) فرنسا خصما في
هذا النزاع لذلك رأت في تصريحات الرئيس فرانسوا هولاند بالجزائر حول النزاع
"خطوة تراجعية نحو الحياد" بدلا من تبني الموقف المغربي. وفي تصريحاته حول
النزاع الصحراوي أثناء زيارته الجزائر، لم يتطرق الرئيس الفرنسي إلى الحكم
الذاتي والمبادرة المغربية وأكد أن بلاده "مع تطبيق قرارات الأمم المتحدة
بخصوص هذه القضية" التي يجب أن تناقش في إطار الأمم المتحدة والمفاوضات
المباشرة، كما قال: "نؤيد قرارات الأمم المتحدة ولا شيء غير قرارات الأمم
المتحدة ويتعين العمل على تنفيذ جميع هذه القرارات"، مضيفا بأن بلاده تساند
الحل التفاوضي والمقبول من جميع الأطراف وفق القرارات والثوابت التي حددها
مجلس الأمن بشكل واضح، كما يجب أن تسمح الواقعية وروح التسوية بالوصول إلى
حل سياسي لهذا النزاع الذي طال. الحسان بوقنطار اعتبر أيضا أن "عدم التطرق
للحكم الذاتي بالصحراء ليس مؤشرا على تغيير في الموقف الفرنسي من النزاع"،
وقال لـ swissinfo.ch: "إن الرئيس هولاند أكد على قرارات الأمم المتحدة
وهي تعني قرارات مجلس الأمن الدولي لأن توصيات الجمعية العامة ليست مُلزمة،
كما أن جميع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالنزاع أكدت منذ 2007 تطرقت إلى
مبادرة الحكم الذاتي ووصفتها بـ "الجادة وذات المصداقية والواقعية".
الباحث المغربي يرى أن تصريحات الرئيس هولاند بشأن استعداد بلاده من
أجل التقدم نحو حل القضية تعني أن فرنسا تُدرك تماما التحدي الذي تمثله
مسألة الصحراء بالنسبة للسكان المعنيين وللمغرب وللجزائر كما أنها قد تساهم
في إخراج عملية السلام الصحراوي من الجمود الذي تعرفه وبالتالي الدفع
بالعلاقات الجزائرية المغربية نحو التطبيع الكامل خاصة فيما يتعلق بفتح
الحدود البرية المغلقة بين البلدين منذ صيف 1994 لأن في هذا التطبيع
"انعكاسات ايجابية" على الإقتصاد الفرنسي. إجمالا، يذهب حسان بوقنطار إلى
أن "تحسن العلاقات الفرنسية الجزائرية وقوة العلاقات الفرنسية المغربية،
تجعل من باريس وسيطا هاما بين البلدين وتسوية كل الملفات العالقة بين
البلدين بما فيها نزاع الصحراء خاصة بعد إعلان كريستوفر روس مبعوث الأمم
المتحدة للصحراء، من خلال تقريره إلى مجلس الامن نهاية شهر نوفمبر الماضي،
عن مقاربة جديدة للمفاوضات بين أطراف النزاع".