- 1 -
يقولون أن عليك أن تفشل لكي تنجح و لا أحد ينجح من المحاولة الأولى، أو على الأقل هكذا أخبروني.
كنت في شارع كبير في مدينة ما أراقب السيارات و هي تمر جيئة و ذهابا و أحلم أنني أسوق إحداها. كنت أتأمل هناك كل يوم في الساعة السادسة و النصف مساء. و كنت أرى نفسي بعد عشرين سنة واحدا من أولئك. أقود سيارتي بين شوارع المدينة الكبيرة. يرن الهاتف و أستيقظ من أحلام يقظتي و أرى رقما غير مسجل لدي فلا أرد، اعتدت على ذلك، لا أرد أبدا على أرقام لا أعرفها. لكن الرقم يستمر في الاتصال مرات و مرات و في كل يوم عند الساعة السادسة و خمس و اربعين دقيقة طيلة عشرة أيام. و في ذلك اليوم قررت أن أرد على الهاتف و لا ألوم إلا نفسي. ضغطت زر الاتصال و نطقت "ألو" فلم يجبني أحد لكنني سمعت صوت تنفس أحدهم من الهاتف. كررت "ألو" و لا أحد يرد فشعرت أنني ارتكبت أكبر خطأ في حياتي. لازلت أذكر الأرقام حتى اليوم لكنني لا أرغب في العودة إلى هناك.
صباح اليوم الموالي رن هاتفي في الساعة السادسة و خمس و اربعين دقيقة صباحا. كان رقم صديقة لي. تنفست الصعداء لأنني شعرت كما لو أن الرقم الغريب اتصل بي مرة أخرى. طلبت أن نتقابل في مطعم بعد نصف ساعة و قالت أن الأمر عاجل. كان يوم أحد و أنا غير متعود على الاستيقاظ مبكرا أيام الأحد لكنني وعدتها بالتواجد هناك بعد نصف ساعة.
في المطعم، نظرت إلى ساعتي و كانت قد تجاوزت السابعة و النصف و هي لم تحضر بعد. بدا الأمر غريبا شيئا ما فلم يسبق لها و أن فوتت ميعادا معي حتى و إن لم تكن هي من طلبت اللقاء. شعرت أن ما أصابني من قشعريرة في الليلة الماضية قد عاد. انتظرت ربع ساعة أخرى ثم اتصلت بهاتفها. رن الهاتف و نطقت "ألو" فلم يجبني أحد. و كررت "ألو" فلم يجبني أحد مرة أخرى و سمعت نفس الصوت، صوت تنفس أحد ما من الهاتف لكن دون أن ينطق. عرفت حينها أن ما يجري أكبر بكثير مما تصورت. شعرت بالخوف و لم أعرف ماذا أفعل لكنني حاولت تجميع شجاعتي و سألت "من هناك؟ لو أن لديك شيئا ما ضدي فأنا من يجب أن تواجهه و ليس أصدقائي". كان ذلك يبدو صائبا عندما نطقته لكن ما أن أقفل الخط في وجهي حتى عرفت مرة أخرى أنني ارتكبت أكبر خطأ في حياتي.
عدت سريعا إلى شقتي. حاولت تجنب أي تواصل مع أي كان. صعدت الدرج فقد كان المصعد عاطلا كالعادة. و تفاجأت بأن باب شقتي مفتوح و ما بداخلها قد نثر يمينا و يسارا و كأن هناك من كان يبحث عن شيء ما. و ربما وجده لأنني وجدت غرفة النوم كما تركتها. حاولت أن أعرف ما الأمر الناقص لكنني لم اصل لشيء ما، عندها اتصلت بالشرطة و أخبرتهم أن هناك من اقتحم شقتي و بعد دقائق كانوا هناك. سألوني بعض الأسئلة المعتادة في مثل هذه الحالات و بعد بعض التدقيق قالوا أن من دخل شقتي كان يمتلك مفتاحا لأنه لا يوجد أثر لأي اقتحام للباب. من غيري يمتلك مفتاح شقتي؟ لا أحد، أنا فقط و ها هو في جيبي. كيف يمكن أن يحدث هذا؟
ضل بالي مشغولا طويلا بهذه القصة. كنت معتادا على العودة إلى النوم بعد الاستيقاظ يوم الأحد لكنه فارقني في ذلك اليوم. وجدت نفسي مشغولا بالتفكير في كل من يمكنه أن يقوم بذلك. طبعا فكرت أنه ربما مقلب من الأصدقاء لإثارة جنوني، لكنني تراجعت عن هذه الفكرة شيئا ما. ليس سهلا أن تضبط كل الأمور لتبدو عملية السخرية هذه حقيقية لهذه الدرجة. ليس سهلا أبدا.
بعد ساعات من التفكير توجهت إلى المطعم الذي اعتدت تناول الغداء فيه، كانت الساعة الثانية بعد الزوال. لازلت أذكر تلك السيارة المركونة عند زاوية الشارع، كانت من نوع كامري زرقاء اللون. شدت انتباهي لأنها المرة الأولى التي أرى فيها كامري زرقاء، لم يكن ذلك عاديا خاصة في هذه المدينة. السيارات هنا ثلاثة ألوان فقط، إما بيضاء أو سوداء أو رمادية. أعتقد لأن أغلب الناس هنا يعتبرون أنفسهم مترفين و أصحاب مناصب كبيرة فلا يختارون إلا السيارات التي تدل على الرفاهية. الكامري الزرقاء وراءها قصة ما لكنني لم أكن مستعدا للبحث فيها.
في المطعم، جلست في مكاني المعتاد و جاءت النادلة التي اعتادت خدمتي كما اعتدت أنا تواجدها هناك في خدمتي و سألتني : "المعتاد؟"، قلت : "نعم". عادت بعد دقائق و هي تحمل طبقي المعتاد و كأسا من الماء و قطعة حلوى، وضعتهم على الطاولة ثم مدت يدها إلى جيبها و أخرجت ورقة و قالت أن رجلا تركها لي هنا قبل قليل. أمسكت الورقة و فتحتها و لم اصدق ما قرأت. سارعت إلى الخارج لأعرف من الرجل الذي تركها لكنني لم ألحظ شيئا غريبا غير عدم وجود الكامري الزرقاء في المكان الذي كانت فيه. عدت إلى النادلة و سألتها عن شكل الرجل، قالت أنه كان طويلا شيئا ما و شعره أشقر و لديه وشم على شكل نجمة في ذراعه الأيمن. لم أعرف من هو حينها، حاولت التذكر لكن لا أحد في ذاكرتي لديه وشم على شكل نجمة في ذراعه. تلك الكامري الزرقاء! عرفت منذ شاهدتها أنها ليست شيئا عاديا و لا يمكن تفويته، يا ليتني حصلت على رقمها قبل ذلك.
في الساعة السادسة و خمس و أربعين دقيقة جاءني اتصال مرة أخرى من نفس الرقم، هذه المرة سارعت إلى الإجابة لكن لا أحد رد مرة أخرى لكنني سمعت صوتا يبدو بعيدا شيئا ما، كان صوت موسيقى، أغنية قديمة لماجدة الرومي، أعتقد أنها كانت "كلمات" لكنها موسيقى فقط بدون كلمات. لم أعرف ما الهدف من جعلي أستمع لموسيقى "كلمات"، كانت كل الأمور تشير إلى أني في خطر لكن موسيقى أغنية حب رائعة كهذه تجعلك تنسى أنك واقع في مشكلة لا تعرف ما هي. كانت الأمور تبدو كأن هذا الشخص الغامض في الكامري الزرقاء يحاول أن يلاعبني لعبة استغماية لكنه يضع لي فتات الخبز في الطريق حتى أعرف أين أسير. يبدو أنه يرسم لي المسار لأعرف ما يريد و من هو. السؤال الآن هو هل سأستمر خلفه أم سأبحث عن طريقي وحدي.