موضوع، عن، الكذب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
المقدمة:
الحمد لله الذي جعل الصدق منجاة، والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين.. أما بعد:
فإن من سبر أحوال غالب الناس اليوم وجد بضاعتهم في الحديث "الكذب" وهم يرون أن هذا من الذكاء والدهاء وحُسن الصنيع، بل ومن مميزات الشخصية المقتدرة.
ولقد نتج عن هذا الأمر عدم الثقة بالناس حتى أن البعض لا يثق بأقرب الناس إليه، لأن الكذب ديدنه ومغالطة الأمور طريقته.
وهذا الكتيب هو الثالث من "رسائل التوبة من.." يتحدث عن الكذب: أدلة تحريمه، وأسبابه، وعلاجه. وفيه مباحث لطيفة.
نفعنا الله به وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
مدخل
جعل الله الأمة الإسلامية أمة صفاء ونقاء في العقيدة والأفعال والأقوال. فالصدق علامةٌ لسعادة الأمة، وحسن إدراكها، ونقاء سريرتها. فالسعادة مفتاحها الصدق والتصديق والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب.
ولقد أخبر سبحانه وتعالى أنّه لا ينفع العباد يوم القيامة إلاّ صدقهم، وجعل علم المنافقين الذين تميَّزوا به هو الكذب في القول والفعل.
فالصدق: بريد الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده وحليته، ولباسه، بل هو لبّه وروحه .
والكذب: بريد الكفر، والنفاق دليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحليته، ولباسه، ولبه، فمضادّة الكذب للإيمان كمضادَّة الشرك للتوحيد، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلاّ ويطرد أحدهما صاحبه ويستقر موضعه.
فما أنعم الله على عبد من نعمة بعد الإسلام أعظم من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده.
أخي المسلم: إياك والكذب، فإنّه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس، فإن الكاذب يصوِّر المعدوم موجودا والموجود معدوما والحق باطلا والباطل حقّا، والخير شرا والشر خيرا، فيفسد عليه تصوره وعلمه، عقوبة له، ثم يصور ذلك في نفس المُخاطب المغترّ به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه، ونفس الكاذب مُعْرضة عن الحقيقة الموجودة نزّاعة إلى العدم مؤثرة للباطل، وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسَرَى حكم الكذب إليها مضار صدورها عنه كصدور الكذب عن اللسان، فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله.
تحريم الكذب
الكذب من قبائح الذنوب وفواحش العيوب.
قال الله جلَّ وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء: من الآية 36].
وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة قّ:18].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصدقَ يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفُجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار، وإنَّ الرَّجل ليكذبُ حتى يُكتب عند الله كذابا».
قال العلماء: "إن الصدق يهدي إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم.
والبر: اسم جامع للخير كله. وقيل: البر: الجنة، ويجوز أن يتناول العمل الصالح والجنة.
أما الكذب: فيوصل إلى الفجور وهو الميل عن الاستقامة. وقيل: الانبعاث في المعاصي".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقا خالصا، ومن كان فيه خصلةٌ منهن، كانت فيه خصلة من نفاقٍ حتَّى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
وفي ذم التحدث بكل ما يسمعه المرء، قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمع».
وقال عبد الله بن عامر: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله، تعال حتى أعطيك. فقال صلى الله عليه وسلم: «وما أردت أن تُعطيه؟».
قالت: تمرا. فقال: «أما إنَّكِ لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة».
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عندالله كذابا».
فاحذر ـ أخي المسلم ـ من مغبَّة الكذب فإن الكذب ساس الفجور كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار».
الحالات التي يُباح فيها الكذب
الكذب حرام؛ لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره. ولكن يُباح الكذب وقد يجب أحيانا، والضابط فيه: أن كل مقصود محمود يمكن تحصيله بغيرالكذب حرم الكذب فيه، وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا. وإن كان واجبا كان الكذب واجبا. فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله وأخفى ماله وسُئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه. وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها منه، وجب الكذب بإخفائها والأحوط في هذا كله أن يُوَري.
وملخص ما سبق، فإن الفقهاء قد نصُّوا على أنالكذب ينقسم على أقسام حكم الشرع الخمسة والأصل فيه التحريم:
القسم الأول: المحرم: وهو ما لا نفع فيه شرعا.
القسم الثاني: المكروه: وهو ما كان لجبر خاطر الوالد أو خاطر الزوجة.
القسم الثالث: المندوب: وهو ما كان لإرهاب أعداء الدين في الجهاد، كأن يُخبرهم بكثرة عدد المسلمين وعددهم.
القسم الرابع: الواجب: ما كان لتخليص مسلم أو ماله من هلاك.
القسم الخامس: المباح: ما كان للإصلاح بين الناس. وقد قيل بقبحه مطلقا؛ لما ورد في أهله من الذم في كتاب الله العزيز.
المعاريض
بيان الحذر من الكذب بالمعاريض:
نُقلَ عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب. وأراد بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب، فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا، ولكن التعريض أهون.
ومثال التعريض:
- ما روي أن مطرفا دخل على زياد فاستبطأه فتعلل بمرض، وقال: ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلاّ ما رفعني الله.
- وقال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله تعالى ليعلم ماقلت من ذلك من شيء. فيكون قوله: "ما" حرف نفي عند المستمع، وعنده الإبهام.
- وكان معاذ بن جبل عاملا لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته: ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهله؟ وما كان قد أتاها بشيء. فقال: كان عندي ضاغط، قالت: كنت أمينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر رضي الله عنه فبعث عمر معك ضاغطا؟ وقامت بذلك بين نسائها واشتكت عمر، فلمَّا بلغه ذلك دعا معاذا وقال: بعثت معك ضاغطا؟ قال: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك، فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئا. فقال أرضها به ـ ومعنى قوله ضاغطا: يعني رقيبا وأراد به الله تعالى.
- وكان النخعي لا يقول لابنته: أشتري لك سكرا، بل يقول: أرأيت لو اشتريت لك سكرا؟ فإنه ربما لا يتفق له ذلك.
- وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار. قال للجارية: قولي له أطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذبا.
- وكان الشعبي إذا طُلب في المنزل وهو يكرهه خط دائرة، وقال للجارية: ضعي الإصبع فيها وقولي لي ليس ههنا.
وهذا كله في موضع الحاجة. فأمَّا في غير موضع الحاجة فلا؛ لأن هذا تفهيم للكذب ـ وإن لم يكن اللفظ كذبا ـ فهو مكروه على الجملة كما روى عبدالله بن عتبة قال: دخلت مع أبي على عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ فخرجت وعليَّ ثوب، فجعل الناس يقولون: هذا كساه أمير المؤمنين؟ فكنت أقول جزى الله أمير المؤمنين خيرا، فقال لي أبي: يا بني اتق الكذب وما أشبهه، فنهاه عن ذلك؛ لأنَّ فيه تقريرا لهم عن ظن كاذب لأجل غرض المفاخرة وهذا غرض باطل لا فائدة منه.
الأسباب الباعثة على الكذب
هناك بواعث كثيرة تدفع صاحب النفس الدنيئة إلى الكذب، ومنها:
أولًا: قلة الخوف من الله وعدم مراقبته في كل دقيقة وجليلة.
ثانيًا: محاولة تغيير الحقائق وإبدالها سواء لرغبة في الزيادة أو النقصان وسواء للتفاخر أو لمكسب دنيوي أو غيره مثل من يكذب في ثمن شراء أرض أو سيارة، أو إيهام أهل المخطوبة بمعلومات غير صحيحة وغيرها.
ثالثًا: مسايرة المجالس ولفت الأنظار بقصص ومعلومات كاذبة.
رابعًا: عدم تحمل المسئولية ومحاولة الهرب من الحقائق في الأزمات والمواقف.
خامسًا: التعود على الكذب منذ الصغر وهذا من سوء التربية فهو منذ نعومة أظفاره يرى والده يكذب وأمه كذلك فينشأ في هذا المجتمع.
سادسًا: المباهاة بالكذب وأنه نوع من الذكاء ومن سرعة البديهة وحسن التصرف.