نوح عليه السلام والدعوة إلى الله
تحدث القرآن الكريم في مواضع عديدة عن رسالة نوح عليه السلام ودعوته إلى قومه ومدى صبر هذا النبي على الدعوة التي كانت من أكثر الدعوات الإلهية في امتدادها الزماني.
الإصرار على الدعوة
يحدثنا القرآن عن المدة الزمنية الطويلة التي لبث فيها نوح عليه السلام يدعو قومه لعبادة الله عز وجل فيقول: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾1.
وهذه المدة الزمنية كانت جهاداً دائماً من النبيِّ نوحد في الدعوة مع أنه قوبل بالإصرار على الكفر من قبل قومه، وقد لجأ إلى استخدام كل وسائل الدعوة التي كانت ممكنة له، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَار﴾2.
عبر مستفادة من دعوة النبي نوحٍ عليه السلام
العبرة الأولى
إن من يريد أن يدعو إلى الحق عليه أن لا يصاب بالملل والضجر فإنه لن يصل في الدعوة إلى ما وصل إليه نبي الله نوح عليه السلام الذي أمضى الألف سنة إلا خمسين عاماً في دعوته لقومه لم يكل ولم يمل من دعوتهم إلى طريق الله رغم أنه لم يجد نتيجة بعد كل هذه السنين.
العبرة الثانية
إن عدم ظهور أثرٍ للدعوة وإصرار الآخرين على الباطل لا يعني اليأس عن دعوتهم إلى الحق، بل على الإنسان أن يستمر بكل طاقاته لأداء التكليف الإلهي الذي أنيط به، وبكل ما أعطاه الله من قوة.
العبرة الثالثة
إن طريق الدعوة إلى الله عز وجل لا بدَّ وان ينطلق دائماً من الحوار الذي يعتمد على المنطق والاستدلال ولذلك نجد إن القرآن عندما يحدثنا عن قصة نوح يحدثنا عن الحوار الذي دار بينه وبين قومه. فإنه مع وصفهم له بأنه في ضلال مبين قال لهم وبلين ومحبة أنَّه ليس على ضلال، بل على الحق وأنه لا يريد من دعوته لهم سوى ما به مصلحتهم.
﴿قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾3.
العبرة الرابعة
إن من يريد أن يدعو إلى الله عز وجل لا بد وأن يتحلى بالصبر الشديد فهذا نوح اتهمه قومه بالجنون ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾4.
وهددوه بأن يرجموه ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ﴾5، فلم يمنعه تهديدهم بالتصفية الجسدية، ولم يخف من مكائدهم، بل صبر على أذيتهم إلى أن جاء أمر الله تعالى في عذابهم.
صناعة الفلك
بعد هذه المدة الطويلة والصبر والثبات على الدعوة بقي قوم نوح على ضلالهم فدعا نوح عليه السلام على قومه بالهلاك بعد استحقاقهم له، قال تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَار﴾6.
وتشرح لنا الآية بوضوح أن سبب دعائه عليهم هو أنهم مضافاً إلى عدم استجابتهم للدعوة أصبحوا ممن يضل الناس ويمنع من يميل إلى الحق من الإيمان بدعوة نوح ولن يولد من نسلهم إلا من هو كافر.
واستجاب الله دعاء نوح وكتب على القوم أن يكون عذابهم بالطوفان ولذا وجّه أمره إلى نوح بصناعة السفينة قال تعالى:﴿وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾7.
ولا بد وأن يكون الموقف الطبيعي لهؤلاء القوم الذين اتصفوا بمساوئ الأخلاق هو الإستهزاء بنوح وبمن معه: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾8.
ورحمة النبي بقومه تظهر حتى بعد دعائه عليهم ورغم استهزائهم به، ولذا لم يكن في جوابه إلا الرحمة والإنذار لقومه بالعذاب الإلهي لعلَّ قلوبهم تلين للحق.
الولد غير الصالح
لقد كتب الله عز وجل الهلاك على قوم نوح واستثنى من ذلك النبي وأهله حيث يقول تعالى:﴿حَتَّى إِذَا جَاءِ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾9.
وامتثالاً لهذا الأمر الإلهي طلب نوح عليه السلام من أهله أن يركبوا سفينة النجاة من العذاب الإلهي إلا امرأته لأن الله عزَّ وجل استثناها بقوله "إلا من سبقَ عليه القول".
وقد قال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين﴾10.
ولكن التفت نوح عليه السلام ليجد ابنه في معزل لم يصعد إلى السفينة فناداه ولم يكن هذا النداء منه إلا لأنه لم يكن يعلم أن ابنه كان من غير المؤمنين ولذلك قال له لا تكن مع الكافرين ولم يقل له لا تكن من الكافرين ولم يدعه نوح للركوب في السفينة لأنه ابنه حتى مع علمه بكفره بل كان يظن منه الإيمان ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ ولكن ابن نوح كان يعلم من نفسه أنه كافر وأنه ليس من أهل السفينة فأجاب والده بقوله: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ﴾11.
ولكن نوح عليه السلام توجه إلى ربه بلهفة الوالد على ولده قال ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾12.
ولكن الجواب الإلهي جاء حاسماً ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِين﴾13.
وكان التسليم من نوح عليه السلام حاسما أمام الذات الإلهية فقال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾14.
وفي قصة نوح عليه السلام مع ابنه دروس وعبر
أولاً: إن الولد غير الصالح قد يأتي من بيئة صالحة بل لربما كان والده نبياً ولكن التكليف يشمل كل إنسان وكل إنسان يتحمل نتائج عمله.
ثانياً: إن القضاء الإلهي إذا ابرم على الكافرين فلا تنفعهم الشفاعة ولا تكون القرابة شفيعاً لهم أمام العذاب الإلهي الذي يستحقه الإنسان.
ثالثاً: التسليم أمام الأمر الإلهي وإقرار الإنسان بجهله أمام العلم الإلهي، والتسليم يعني عدم الإعتراض، والخضوع لكل ما يحكم به الله عزَّ وجل.
نوح العبد الشكور
قال تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُور﴾15.
والشكور هو الإنسان الكثير الشكر
وقد ورد في الروايات بيان هذه الصفة فعن أبي حمزة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: قال: قلت: فما عنى بقوله في نوح ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُورا﴾؟
قال عليه السلام: كلمات بالغ فيهن، قلت: وما هن؟ قال عليه السلام: كان إذا أصبح قال: أصبحت أشهدك ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فإنها منك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد على ذلك، ولك الشكر كثيراً، كان يقولها إذا أصبح ثلاثاً وإذا أمسى ثلاثاً.
الشكر قد يكون باللسان وقد يكون بأشكال أخرى، يقول الإمام الخميني قدس سره في الأربعون حديث: "اعلم أن الشكر عبارة عن تقدير نعمة المنعم. وتظهر آثار هذا التقدير في القلب في صورة وعلى اللسان في صورة وفي الأفعال والأعمال بصورة ثالثة. أما آثاره القلبية فهي من قبيل الخضوع والخشوع والمحبة والخشية وأمثالها. وأما آثاره على اللسان فالثناء والمدح والحمد، وأما آثاره في الأعضاء فالطاعة واستعمال الجوارح في رضا المنعم وأمثاله"16.