خمسون سنة قبل ميلاد المسيح عليه السلام، كانت بمصر امرأة إغريقية اسمها كليوباترا السابعة. كليوبترا يا سلام، امرأة بعشرة رجال، حكمت مصر سنين ولما تبلغ السابعة عشر من العمر. كليوبترا ابنة بطليموس الثاني عشر، تزوجت أخاها بطليموس الثالث عشر وارتقيا العرش سوياً بمقتضى وصية أبيهما سنة 51 ق.م. لكن الغدر في الناس دفين، ذلك أن بطليمي أنزل أخته كليوبترا الملكة من على عرشها واستفرد بالحكم.
كانت كليوباترا سيدة شجاعة، واسعة الثقافة والأطماع، قوية الإرادة، تجمع إلى جانب جمالها رقة أخاذة وعذوبة في حديثها، وقدرة فائقة على استمالة من تريد اكتسابه. عندما وليت الحكم كانت روما أقوى دول العالم، في حين وصلت مصر إلى حالة كبيرة من الضعف، وكادت منذ فترة قصيرة تصبح ولاية رومانية. لذلك اعتزمت كليوباترا استخدام مواهبها في استغلال الرومان لتحقيق آمالها في بناء إمبراطورية واسعة. والمرأة كيدها عظيم، قالوها أهل زمان. لم تستسلم ولم ترض بالأمر كليوبترا الجميلة. تزوجت جيل سيزار العظيم أمبراطور الرومان حين جاء لزيارة مصر. ولم يدر العام حتى رزقت منه بولد أطل عليها بالسعد والسلوان. أعاد سيزار العظيم لكليوبترا عرش مصر من أخيها وتوعد كل طامع يسعى لهز البنيان بالويل وشر المآل.
مرت الأيام، مات الإمبراطور سيزار العظيم. عشقت كليوبترا قائد جيوشه الجنرال مارك أنطوان الذي أصبح حاكما لشرق الرومان. لكن، قبل أن يتزوج أنطوان كليوبترا، طلق أختا لابن سيزار بالتبني أوكتافيان. هاج غضب أوكتفيان وراح يستعد لمحاربة أنطوان. التقت سفن الجمعين في عرض البحر قرب اليونان، فكانت الغلبة لأكتفيان. هرب بعد ذلك أنطوان وعشيقته كليوبترا السابعة وعادا إلى مصر، وتحديدا إلى الإسكندرية. لكن الجنرال لم يستسغ الهزيمة. وككل القادة الشجعان، بقر بطنه وقطع أحشائه بسيفه ومات بين يدي حبيبة القلب كليوبترا كما لو كان قربان حب ووفاء. لازمت كليوبترا جراح في القلب صعبة الاندمال والنسيان. فكرت أن ليس غير الموت لتخفيف البلوى وتطهير حب كان يلهج به قلبان. ما قيمة الحياة بعد وفاة الحبيب يا للبهتان؟ أدخلت يدها في سفط به حيات تنفث السم ألوان. بدأت تلهج بالمر والألم ولم تسحب يديها حتى كان ما كان. ماتت كليوبترا مسمومة بعد أن فقدت المحب الولهان. لكن قبل الوفاة أنجبت بنتا من القائد أنطوان سمتها كليوبترا سليني. كليوبترا سيليني ثمرة الحب العاصف ستحمل إلى روما بعد نهاية حكم البطالمة بمصر لتتلقى تربية ورعاية داخل القصر، ثم تتزوج بعد حين الأمازيغي جوبا الثاني المتبنى هو الآخر بقصر روما بعد انتحار والده ملك المازيلي جوبا الأول.
شب جوبا الثاني (Juba II) في روما، وتفوق في دراسته، ثم تزوج كليوبترا سليني سليلة ملوك البطالمة. كليوبترا سيليني البنت حبلت من جوبا الثاني وجاءت بولد سماه أبوه بطوليمي على اسم أخواله. أصبح البربري جوبا الثاني، المتشبع بحضارتي الرومان والإغريق والممجد للآلهة الأنثى المصرية إزيس آلهة الأمومة والخصوبة، أصبح ملكا، بأمر من روما، على مناطق المغرب ومناطق من غرب الجزائر. ضربت النقود باسمه وباسم الملكة كليوباترا سيليني. هكذا، وفي حدود العام 25 ق.م، كانت المنطقة الممتدة إلى الغرب تحكم من طرف المدعو جوبا الثاني. اتخد جوبا الثاني من شرشال الشاطئية التي كان قد بناها الفينيقيون عاصمة له سماها سيزاريا تكريما للأمبراطور الروماني سيزار. وفي شمال المغرب بنى قصرا للراحة والاستجمام، قد تكون بقاياه لازالت صامدة حتى الآن في منطقة وليلي.
ازدهرت تجارة البربر مع الشمال الروماني في زمان ملكهم جوبا الثاني وملكتهم كليوبترا سيليني. كان البربر يصدرون نقاعة ملح يحفظ فيها اللحم والسمك والخضروات (تسمى الكاروم)، بالإضافة إلى تصدير الأرجوان، تلك المادة التي تستخرج من بعض الصدفات البحرية وتستعمل لتلوين الأقمشة. وإن عرف الأرجوان من قبل عند الفينيقيين في صور بلبنان وفي قرطاجة بتونس، إلا أن الأرجوان الذي أمر جوبا الثاني باستخرجه من موكادور (مدينة الصويرة المغربية) وجزر الكناري، كانت له مميزات خاصة وجودة عالية. وليس عبثا أن يذكر كتاب كبار، من أمثال الروماني هوراس واللاتيني أوفيد والإغريقي بلين، في كتبهم أرجوان الأمازيغ الموريين المتميز الذي كان يستخرج من سواحل المحيط الأطلسي.
قدم جوبا الثاني خلال ملكه الذي دام 48 سنة، مظاهر عديدة للحضارتين الرومانية واليونانية في إفريقيا الشمالية. ذاق الأمازيغ حلاوة التجارة وتقنية الصناعات اليدوية لحضارات البحر الأبيض المتوسط، وسروا كثيراً بحرث الأراضي وجني المحاصيل المتنوعة. وقد أدى الاستقرار الذي فرضته الإمبراطورية الرومانية في المنطقة إلى تمكن مزارعي إفريقيا الشمالية وصناعها اليدويين من أن يصدروا إلى الأسواق البعيدة الواقعة في أقصى أجزاء الإمبراطورية. وهكذا نعمت بلادهم بالسلام، وحالفهم النجاح والرخاء الاقتصادي بسبب المعاهدات التي عقدوها، والارتباطات الدولية التي حصلوا عليها.
كان البربري في ذاك الزمان قوي شجاع لا يقهره لا إنس ولا حيوان ولا جان. كان يصارع الفيلة والسباع والنمور ووحيدي القرن المنتشرة بكثرة في أرض الخصب جنوب البحر الأخضر. يصطاد منها المئات والمئات، بل قل الآلاف التي كانت تجوب سفوح وجبال وصحاري مغرب ما قبل الميلاد وبعده. يأخذ جلودها وفروها وعاجها ويبيعه في بلاد الرومان حيث يلبسها العارضون في المسارح وفي السيرك الجوال وفي حلبات المصارعة التي كان يحضرها الملوك والملكات.
اهتم جوبا الثاني بكل مقومات الدولة الرومانية في شرشال ووليلي، منها الفلاحة حيث جعل الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط مصدرا لتزويد روما بالحبوب، واهتم بالصناعة وخاصة الصناعة الغذائية. وفي الجانب العلمي استقطب عددا من العلماء والأطباء والمستكشفين الذين جابوا الشواطئ المحيطية حتى جزر الكناري. وقد جعل جوبا الثاني عاصمته الرئيسية في شرشرال وعاصمة ثانية في وليلي، وانصرف إلى الفن والتأليف والآداب اليونانية هو وزوجته كليوبترا سيليني بعد أن وطد أسس ملكه التابع لروما. وقد عثر على تمثال رأسي برونزي للملك جوبا الثاني في أنقاض وليلي. ومن أهم الآثار التي خلفها جوبا الثاني للمغرب، مواقع بموكادور وهي جزيرة صغيرة قرب مدينة الصويرة، والتي عرفت ازدهارا مهما إذ كانت تتواجد بها مواقع لاستخراج الصباغة الأرجوانية من أصداف بحرية. وقد دلت الحفريات الأثرية على استيطان جزيرة موكادور خلال الفترة الرومانية إلى حدود القرن الخامس الميلادي. كما تعد منطقة كوطا، جنوب مدينة طنجة، مجمعا صناعيا اختص بتمليح السمك، وهو يتكون من عدة أحواض يصل عمقها إلى مترين. وقد عرف هذا النشاط في عهد الملك جوبا الثاني وابنه بطوليمي تطورا كبيرا أدى إلى ظهور صناعات أخرى كاستخراج مادة الملح. وحين يقل السمك، تتحول أحواض التمليح إلى أحواض لاستخراج مادة التلوين الأرجوانية التي جسدت شهرة جوبا الثاني. كذلك، من المعالم التي تمتاز بها مدينة الليكسوس شمال المغرب والتي يرجع عهدها هي الأخرى الى الملك جوبا الثاني المســـــرح الدائري الذي يعتبر أول ما اكتشف في أمبراطورية موريتانيا الرومانية وكان دوره الترفيه على عمال تمليح السمك في تلك الحقبة، حيث تعتبر ليكسوس من المراكز الأولى في منطقة شمال إفريقيا المتخصصة في صناعة السمك وتصبيره.
في عهد "بطوليمي"، خلف جوبا الثاني، تم التوحيد النهائي للقبائل الأمازيغية تحت سلطة روما. كما عرفت دولته في عهده تركيز الاقتصاد وظهور مجموعات أمازيغية تدور في فلك الدولة الرومانية تتمتع بتسيير شبه مستقل. وفي سنة 40 ميلادية، سيستدرج الروماني كاليكولا الأحمق (Caluculla) ابن خالته بطوليمي أو بطليموس الأمازيغي إلى حضور احتفالات رسمية بمدينة ليون ببلاد الغال حيث أمر باغتياله، لا لسبب إلا لأن بطوليمي كان يرتدي برنسا ملونا بلون الأرجوان المستخرج من شواطئ المغرب الأطلسية. وبموت بطوليمي الأمازيغي الأصل انقرضت المماليك الأمازيغية القديمة لتبدأ فترة الثورات الشعبية وبروز عدد من الزعماء البربر المناهضين للتواجد الروماني بالمغرب الكبير. وهكذا حمل مشعل الثورة ضد الرومان الفارس (Aedemon) لمدة أربع سنوات في محاولة للثأر لملكه بطوليمي المغتال غدرا ببلاد الغال. وستتميز ثورات البربر حينها بعنف أدى إلى هدم مركز تامودا كليا وليكسوس ووليلي جزئيا، ولم تسلم سوى طنجة