كارل ياسبرز (1883 ـ 1969) هو احد فلاسفة المانيا المعدودين في القرن العشرين. واذا كان اسم زميله هيدغر قد غطَّى عليه الى حد ما، إلا ان المتخصصين بتاريخ الفلسفة يعرفون قدره واهميته. ويمكن القول بشكل عام بأنه ينتمي الى التيار المؤمن في الفلسفة الوجودية، هذا في حين ان هيدغر كـ «سارتر» ينتمي الى التيار الملحد بعد ان كان مؤمنا، بل ولاهوتيا في بداية حياته. مهما يكن من امر فإن المناقشة الخصبة التي اخترقت الفكر الاوروبي منذ بداية العصور الحديثة كانت هي مناقشة العلاقة بين العلم والايمان، او الفلسفة والدين. والبعض يحاول ان يحصر هذه المناقشة الكبرى في خيارين متطرفين لا ثالث لهما: فإما ان تكون مؤمنا تقليديا رافضا للعلم والفلسفة، واما ان تكون ملحدا رافضا لكل ايمان او تعالٍ رباني!.. اما ياسبرز فيفضل اتباع الخط الثالث: اي خط الوسط الذي يجمع بين العقل والايمان.
فهذا الفيلسوف الكبير الذي كان ينبغي على المثقفين العرب ان يهتموا به مثل سارتر وهيدغر وربما اكثر يرى ان الانسان الحديث يقف في مواجهة ثلاثة تيارات اساسية هي: تيار العلم، وتيار الفلسفة، وتيار اللاهوت (او الدين). ولكن العلم، كما يرى ياسبرز، محصور بمعرفة الوقائع المادية او بالمعرفة المبنيّة على التجربة. اما الاسئلة الوجودية الكبرى التي تخص الحياة والموت وما بعد الموت فلا تعنيه في شيء. انه لا يطرح اسئلة من نوع: من نحن؟ من اين جئنا؟ والى اين المصير؟ فهي في رأيه اسئلة ميتافيزيقية، اي ما ورائية او غيبية، عفا عليها الزمن.. وحدها الفلسفة تطرح مثل هذه الاسئلة، وكذلك الدين. ولكن المشكلة هي انه يوجد فهمان للدين: الفهم التقليدي الذي يقوم على التسليم اساسا، والفهم الحديث الذي يقوم على العلم والعقل والبصيرة الفلسفية.
في مقالة له بعنوان «الايمان والتنوير» يقول هذا المفكر الكبير ما معناه: يعتقد بعضهم ان عدم الايمان ناتج عن التنوير بالضرورة. ولكن ما هو التنوير؟ التنوير يتعارض مع التعصب الاعمى الذي يعتقد بأفكار معينة دون ان يخضعها للتفحص النقدي. انه يتعارض مع الاعمال السحرية والشعوذية. انه يرفض الحَجْر على حرية التفكير ويحارب الاحكام المسبقة والافكار العتيقة التي ثبت بطلانها وضررها. انه ـ اي التنوير ـ يتطلَّب منا بذل الجهد باستمرار من اجل البحث عن الحقيقة، وعدم تصديق اي شيء إلا بعد غربلته وتمحيصه على ضوء معايير العقل والمنطق.
ان الانسان يريد ان يرى الاشياء بوضوح لكي يعرف كيف يتصرف ويعمل على هدي من أمره. باختصار: فإنه يريد ان يفكر بنفسه وبشكل مستقل ومسؤول، لا ان يفكر الآخرون عنه. ولهذا السبب قال كانط، فيلسوف التنوير الاكبر، بأن التنوير يعني انتقال الانسان من مرحلة القصور العقلي الى مرحلة البلوغ وسن النضج. فالانسان في العصور المسيحية الاوروبية السابقة كان يطيع الكاهن بشكل أعمى ويصدق كل ما يقول ويخضع له دون اي مناقشة. وهذا يعني انه كان يُعَاْمَل معاملة الطفل، اي كالقاصر الذي لا عقل له. بدءا من عصر التنوير، اي عصر العقل والعلم، اصبح الانسان مطالبا بأن يفكر بشكل شخصي وان يتحمل مسؤولية افكاره وافعاله.
ولكن كثيرا ما يخطئ الناس في فهم التنوير لأن معناه في الحقيقة ملتبس او غامض. فهناك تنوير صحيح، وتنوير خاطئ، وليس من السهل التمييز بينهما. ولهذا السبب فإن عداء بعضهم ـ وبخاصة الكهنة ـ للتنوير هو ايضا ملتبس. فاحيانا يهاجمون التنوير الخاطئ او السطحي او المزيف ومعهم الحق. واحيانا يهاجمون التنوير الصحيح ويرتكبون بذلك غلطة كبيرة في حق العلم والايمان في آن معا. وغالبا ما يختلط الأمران ببعضهما بعضا.
بعض الكهنة المسيحيين يقولون: لقد قضى عصر التنوير على الاعتقاد في اوروبا فلعنة الله عليه وعلى المتنورين اجمعين! ان التنوير أدى الى تصفية التراث المسيحي الذي كانت ترتكز عليه حياتنا كلها منذ اجيال واجيال.. لقد فكَّك الايمان والمعتقدات الموروثة أبا عن جد منذ مئات السنين، لقد تركنا يتامى، مهجورين، واوصلنا الى الفراغ، الى العدمية.. فالتنوير يعطي لكل انسان الحق في ان يستسلم لنزواته التعسفية او آرائه الشخصية ويولّد بالتالي الفوضى والاضطراب. انه يجعل الانسان تعيسا بعد ان فُرِّغ قلبه من الايمان ومادت الارض من تحت اقدامه.
في رأي كارل ياسبرز ان هذه الانتقادات لا تنطبق إلا على التنوير الخاطئ او الفهم الخاطئ للتنوير. فليطمئن الناس اذن ويهدئوا من روعهم!.. فالفهم الخاطئ للتنوير ـ او لنقل الفهم المغرور والمتعجرف ـ يعتقد ان كل معرفة، وكل ارادة، وكل عمل يمكن ان تستند الى العقل فقط. هذا في حين ان العقل ينبغي ان يُستخدم فقط كأداة ضرورية لإضاءة ما يُقدَّم له من مكان آخر يتعالى عليه. ثم ان الفهم الخاطئ للتنوير يحول المعارف الجزئية التي يحصل عليها الانسان عن طريق عقله الى ثوابت مطلقة او حقائق يقينية ونهائية. نقول ذلك ونحن نعلم انها عابرة ومؤقتة، وكل تاريخ العلم يثبت لنا ذلك. فالنظريات العلمية تتوالى وراء بعضها بعضا وتصحح بعضها بعضا. يضاف الى ذلك ان الفهم الخاطئ للتنوير يغري الانسان ويجعله ينتفخ ويعتقد بأنه يمتلك معرفة كاملة لوحده. يحصل ذلك كما لو ان الانسان هو وحده الكلّ، وانه لا ينتمي الى جماعة تتجاوزه.. ان معنى الكائن الاعظم، اي الله عز وجل، يخفى على المتنوّرين بشكل سطحي او سريع، وكذلك معنى الهيبة العليا او الفوقية. نقول ذلك ونحن نعلم ان كل حياة بشرية ينبغي ان تسلك طريقها على ضوء الايمان بالله والهيبة الفوقية او الذروة الاخلاقية التي تعلو ولا يعلى عليها. باختصار فإن الفهم الخاطئ للتنوير يعتقد بأن الانسان مكتفٍ بذاته وليس بحاجة الى اي مساعدة او هداية من خارجه. انه يحثّ على المعرفة، لا على الايمان.
والآن نطرح هذا السؤال: ما هو اذن المعنى الصحيح للتنوير؟ وعليه يجيب ياسبرز بما معناه: انه الفهم الذي لا يحدد بشكل مسبق للعقل حدودا من الخارج. انه الذي لا يحصره مسبقا بواسطة بعض الفرضيات الدوغمائية. فالعقل ينبغي ان يظل حرا، منطلقا، بدون قيود او حدود تعسفية. والفهم الحقيقي للتنوير لا يكتفي بتفكيك الافكار التعصبية، والخرافات، والاساطير وانما يضع نفسه على محك الشك والنقد ايضا. فالعقل التنويري ليس معصوما. وحده العقل الدوغمائي يعتقد انه معصوم. وعقل التنوير لم يُطِح بمعصومية العقل السابق لكي يحِل محلها معصومية جديدة. فحرية البحث والتمحيص تظل مفتوحة. وينبغي ان تُطبَّق على التنوير ذاته لانه ليس فوق النقد ولا فوق الفحص. والفهم الصحيح للتنوير لا يخلط بين مجريات العقل وبين القيم الاخلاقية العليا. فهذه القيم يمكن اضاءتها عن طريق المجريات الفكرية للعقل، ولكن لا يمكن ان تجد في العقل اساسها او قاعدتها التي ترتكز عليها. انها تتجاوز العقل البشري او تعلو عليه، انها إلهية لا بشرية.
اذا ما فهمنا التنوير على هذا النحو فإنه لن يقضي على الايمان بالمعنى الجوهراني، الداخلي، الحر للكلمة. على العكس انه يؤدي الى اتساع الايمان واستضاءته كلما اتسعت معارف الانسان وزادت علومه. نقول ذلك بشرط الا نخلط بين الايمان الداخلي والايمان الخارجي القائم على الطقوس الكنسية والشعائر والقوالب الشكلانية ذات الطابع الإكراهي والقسري بالضرورة. ثم يوضح ياسبرز الفرق بين الفهم الصحيح للدين والفهم الخاطئ ويقول: هناك فرق بين جوهر الدين وبين التأويلات الدوغمائية التي قدمها الكهنة عنه على مدار القرون. فإذا فهمنا ان جوهر الدين هو الحرية وان الله ذاته لا يتجلَّى للانسان الا من خلال الحرية فاننا نعرف عندئذ سبب انصراف الناس في اوروبا عن المسيحية وسبب نجاح حركة التنوير.
فالكهنة حوَّلوا الدين الى قيود وأصفاد، الى إكراه للضمائر والعقول فأنت اصبحت مجبرا على الايمان ببعض العقائد والطقوس اجبارا بمعنى آخر فانهم حولوا الدين الى عكسه، واعطوا عن الله تصورا مضادا لطبيعته وجوهره. وبما ان هذا التصور ساد طيلة قرون وقرون فإنه تحول الى حقيقة واقعة لا تقبل النقاش. واصبح يصعب علينا ان نقدم تصورا آخر عن الدين، تصورا اقرب ما يكون الى اصوله الاولى وجوهره. والناس الذين يظهرون العداء للتنوير هم اولئك الذين لا يستطيعون الخروج من التصور القديم الموروث عن الأسلاف. لقد تعودوا عليه، اي على العبودية الى درجة انهم ينكرون طعم الحرية. فهم يشعرون بحاجة نفسانية للخضوع للكهنة الذين يقدمون انفسهم وكأنهم الناطقون الرسميون باسم الله! ولكن اذا ما فهمنا الله على اساس انه مطلق الحرية فإنه لا يعود هناك اي تناقض بين التنوير والايمان. وسوف يظل الايمان مستمرا حتى بعد انتصار التنوير.