إنّ علم مصطلح الحديث يحتل مكانة مرموقة وقمة عالية ورتبة أولية، في فضله وشرفه وقدره وفخره وعظمته. يحتاج ويفتقر ويضطرّ إليه كلّ من يريد ممارسة الحديث ومعرفته ودرايته مميّزا بين صحيحه وسقيمه وأصيله ودخيله.
الحديث هو نور صدر من مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم، بيانا وتبيانا لكتاب الله العزيز المنزّل، الفارق بين الحق والباطل، و قال تعالى: "إنا أنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم"
فالحديث هو بيان وإيضاح وتفسير وتفصيل للقرآن الكريم.
فلا يتصور فهم القرآن ومعرفة ظاهره وباطنه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيّده، وناسخه ومنسوخه، وما إلى ذلك إلا بمعرفة الحديث.
ومن ناحية أخرى: إنّ القرآن يأمرنا بأخد الحديث والعمل به، والتمسك والاعتصام به، وقال تعالى: " وما ءا تاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"
فالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه هو الطاعة لله في الواقع والحقيقة، فلا يتحقق طاعة الله إلا بطاعة حبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: " من يطع الرسول فقد أطاع الله"
فالقرآن والحديث متلازمان، لا ينفك واحد عن آخر، ولا تتم دراسة واحد إلا بدراسة الآخر، كما لا يتم الدفاع عن واحد إلا بالدفاع عن الآخر.
ولذا اهتم علماء الدين بالحديث النبوي اهتماما بالغا، واعتنوا به اعتناء كبيرا.
وقد دافعوا عنه أشدّ الدفاع، وشدّدوا في شروط الرواة وأخذ الحديث وروايته، منذ أن وقع الفتن بين المسلمين وظهر أهل البدع والأهواء، فكانوا لا يأخذون الحديث إلا من أهل الحق والصدق والصلاح.
وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه بسنده عن التابعي الجليل محمد بن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا سمّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيأخد حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يأخذ حديثهم .
وقد ظهر في كلّ عصرمن العصور مبتدعة وزنادقة، يشوّهون الحق ويخلطونه بالباطل، ويعكرونه ويمزجونه بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
كم من أحاديث موضوعة، وكم من آثار مخترعة، وكم من أخبار مصنوعة، وضعها واخترعها وصنعها المبتدعة والزنادقة، ثم تلقاها الجهلة وبعض المتساهلين والمتصوفة، فرووها وأوردوها في كتبهم، وأدخلوها وأدرجوها في برامجهم، بدون تمييز بين حقها وباطلها وأصيلها ودخليها، ومقبولها ومردودها.
فقيّض الله تعالى المحدّثين الجهابذة من هذه الأمة في كلّ عصر، لتصليح ما شوّهوه وتطهير ما عكروه، فقاموا بواجباتهم تجاه الحق تعالى، فدافعوا عن دينه عامة وعن سنة نبيه وحبيبه خاصة، فميّزوا من الحديث زائفه ومرفوضه، ومزوّره ومردوده، ووضعوا ضوابط وقواعد واصطلاحا، ومعيارا ومقياسا للتمييز بين صحيحه وحسنه وضعيفه ومتروكه وموضوعه وما إلى ذلك، وهذا هو المعني بعلم مصطلح الحديث.