محاكم التفتيش Inquisition ،ديوان أو محكمة كاثوليكية نشطت خاصة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، مهمتها اكتشاف مخالفي الكنيسة ومعاقبتهم..
إستُخدِمَت بشكل عام لمحاكمة المهرطقين بواسطة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. وكان ذلك من خلال محاكمات إكليريكية أو المحاكم التي كانت تقيمها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لقمع أو مكافحة الهرطقة، وكانت مهمتها اكتشاف السحرة ومعاقبتهم حيث قامت محاكم التفتيش بحرق 59 امرأة باسبانيا، 36 بإيطاليا و4 بالبرتغال، بينما قامت محكمة القضاء المدني الأوروبي بمحاكمة 100 ألف امرأة، 50 ألف منهم تم حرقهم، 25 ألف بألمانيا خلال القرن السادس عشر من أتباع مارتن لوثر. وكانت سلطة محاكم التفتيش على أتباع الكنيسة من المعمدين فقط، والذين كانوا يشكلون الغالبية من السكان، لكن كان ممكنًا لغير المسيحيين أيضًا أن يحاكموا بتهمة سب الدين.
وكان استخدام وسائل التعذيب في حق من كان يُظن أنه من الهراطقه أمر مألوف كأسلوب بشع للعقاب من قطع أوصال وحرق الناس أحياء، فوصلت الأعداد التي تم تعذيبها ثلاثمئة ألف من البروتستانت ومئة ألف بلغاري وفرنسي وأرثوذكسي.
محاكم ومؤسسات التفتيش
قبل القرن الخامس عشر قامت الكنيسة الكاثوليكية بالتدريج بقمع الهرطقة، وكان هذا عادةً وفقًا لنظام كنسي، النفي، والسجن. وعلى الرغم أن العديد من الولايات سمحت للكنيسة باستخدام عقوبة الإعدام إلا أن هذا العقاب لم يكن مستخدمًا بكثرة، لأن هذا النوع من العقاب كان له الكثير من المعارضين من الكنيسة.
وفي القرن الثاني عشر، ولمواجهة انتشار الكاثارية، أصبح إتخاذ الإجراءات القانونية ضد الهرطقة أكثر انتشارًا، فتأسست مجالس كنسية مكونة من الأساقفة ورؤساء الأساقفة مكونة ما يعرف بمحاكم التفتيش.
وفي القرن الثالث عشر، قام البابا بتسليم مهمة محاكم التفتيش للدومينيكايين، فقام المحققين بالعمل باسم البابا والاستخدام الكامل لسلطته، فإتبعوا إجراءات للتحقيق كانت شائعة في ذلك الوقت، فكانوا يحاكمون المهرطقين عن طريق السلطات المحلية التي كانت تؤسس محاكم لتقاضي المهرطقين، وفى نهاية القرن الخامس عشر، كانت محاكم التفتيش يترأسها المفتش الأعظم. وإستمرت على هذا الحال حتى القرن التاسع عشر.
وأنشئ مكتب خاص لتحريم الكتب في الفاتيكان في القرن السادس عشر. ولم يُلغ هذا المكتب إلا عام 1965. وهدف المكتب منع المسيحيين من قراءة الكتب التي يعتبرها ضارة بالعقول أو خطرة على العقيدة. وقد وضعت معظم الكتب الفلسفية والعلمية على لائحة الكتب الممنوعة. ولكنها أصبحت مباحة فيما بعد على أثر انتصار العصور الحديثة على العصور القديمة. ولم يعد أحد يعبأ برأي الفاتيكان فيما يخص هذه النقطة، اللهم إلا بعض المسيحيين المتزمتين.
حركات محاكم التفتيش التأريخية
العصور الوسطى
وقد أنشئت في أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع وذلك عام 1233. وكان هدفها محاربة الهرطقة في كل أنحاء العالم المسيحي. والمقصود بالهرطقة هنا أي انحراف ولو بسيط، عن العقائد المسيحية الرسمية. وقد كلف بها رجال الدين في مختلف المحافظات والأمصار. فكل واحد منهم كان مسؤولاً عن ملاحقة المشبوهين في ابرشيته. وكان الناس تساق سوقًا إلى محكمة التفتيش عن طريق الشبهة فقط، أو عن طريق وشاية أحد الجيران. كانوا يعرضون المشبوه به للاستجواب حتى يعترف بذنبه، فإذا لم يعترف انتقلوا إلى مرحلة أعلى فهددوه بالتعذيب. وعندئذ كان الكثيرون ينهارون ويعترفون بذنوبهم ويطلبون التوبة. وأحيانًا كانت تعطى لهم ويبرأون. ولكن إذا شّكوا بأن توبتهم ليست صادقة عرضوهم للتعذيب الجسدي حتى ينهاروا كليًا. واذا أصرّ المذنب على أفكاره ورفض التراجع عنها فإنهم يشعلون الخشب والنار ويرمونه في المحرقة. وقد قتل خلق كثير بهذه الطريقة التي أصبحت علامة على العصور الوسطى.
ويقال أن عدد الضحايا الذين ماتوا بهذه الطريقة يتجاوز عشرات الألوف، ومن أشهر الذين ماتوا حرقا المصلح التشيكي المشهور جان هوس وكان راهبًا مشهورًا بإخلاصه وتقواه واستقامته، كما كان يحتل أرفع المناصب الأكاديمية بصفته عميدًا لجامعة براغ في بداية القرن الخامس عشر. ولكنهم اتهموه بأنه كان يدّعي أن الكنيسة خرجت عن مبادئ الدين وأنه ادعى أن بعض القساوسة والمطارنة انحرفوا عن واجبهم الحقيقي واهتمامهم بمصالحهم الشخصية واستغلالهم المادي للناس البسطاء. وقد التف حوله ناس كثيرون أحسّوا بصدقه وإخلاصه. وعندئذ قامت الكنيسة الكاثوليكية بتكفيره بتهمة الزندقة، وعلى الرغم من أنهم أعطوه الأمان بعد أن إستدعوه للمحاكمة الاّ أنهم غدروا به فاعتقلوه وألقوه طعمة للنيران في نفس اليوم، أي بتاريخ 6 يوليو من عام 1415.
ومن أهم الذين مثلوا أمام محاكم التفتيش الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برينو والعالم الشهير جاليليو، بل إن كوبرنيكوس القائل بدوران الأرض حول الشمس لم ينج منها إلا بسبب حذره الشديد. فقد أجل نشر كتابه الذي يحتوي على نظريته الجديدة حتى يوم وفاته بالضبط ! ولكن لم يكن هذا خط برينو الذي هرب من إيطاليا بعد أن انخرط في سلك الرهبنة لفترة من الزمن، فبسبب من تعلقه بالافكار الفلسفية وتبنيه لنظرية كوبرنيكوس المدانة من قبل البابا، فانهم راحوا يشتبهون به ويلاحقونه، وعندئذ اضطر للفرار والعيش متنقلا بين فرنسا وسويسرا وإنجلترا وألمانيا. وكان يشتغل استاذا في جامعات هذه البلدان التي يمر بها. واشتهر بالتفوق والنبوغ العلمي، بل واستبق على الكثير من النظريات الحديثة التي ثبتت صحتها فيما بعد. وبعد أن غاب سنوات طويلة عن بلاده وشعر بالحنين إليها استدرجه أحد التجار الاغنياء من البندقية. وطلب منه العودة لتعليم أولاده والعيش بأمان في بلاده إيطاليا ولكنه سرعان ما غدر به وسلمه إلى محاكم التفتيش في الفاتيكان. فقطعوا لسانه واحرقوه. وأصبح جيوردانوبرينو منارة مشعة على مدار التاريخ الأوروبي.
وأما العالم الشهير جاليليو فقد كان مهددا بنفس المصير لولا أنه استدرك الامر في آخر لحظة وقبل بالتراجع عن نظريته المشهورة. وهكذا عفوا عنه. ولم ينفذوا فيه حكم الاعدام. ثم أُحيل إلى الإقامة الجبرية في ضواحي فلورنسا وأتيح له أن يكمل بحوثه وهو تحت المراقبة. ولم تعترف الكنيسة الكاثوليكية بغلطتها في حق جاليليو إلا بعد مرور أكثر من ثلاثمئة سنة على محاكمته! وقد استمرت محرقة محاكم التفتيش موقدة حتى القرن السابع عشر، بل وحتى الثامن عشر. نضرب على ذلك مثلا حادثة شهيرة حصلت في عز عصر التنوير لشخص يدعى جان فرانسولابار (1747-1766) أي في القرن التاسع عشر. فقد قطعوا يده لانه كسر الصليب واقتلعوا لسانه ثم أحرقوه أخيراً. وكان شابا مراهقا لا يتجاوز عمره التاسعة عشر. وقد استغل فولتير هذه القضية وهاجم الأصوليين المسيحيين هجوما شديدا. ومن الأمثلة الأخرى ما حصل للفيلسوف ميشيل سيرفيه الذي أحرقوه حيا في جينيف بتهمة التشكيك بعقيدة التثليث، وهي من العقائد الأساسية في المسيحية. فبمجرد ان شكك بصحتها ألقي طعمة للنيران ولم يشفع له علمه ولا فلسفته ولا إنسانيته.
محاكم التفتيش الإسبانية
في القرن السادس عشر أصبحت اسبانيا أكبر قوه كاثوليكية في العالم آنذاك، وكانت موضع حسد من العالم البروتستنتى في الشمال، وكانت إسبانيا نموذجًا لدولة دينية سلطويه، فتتحكم وتعين الكنيسه فيها الملوك والأباطره الذين يحكمون بحاكميه تسمى ظل الله في الأرض أو قانون الحق الإلهى، وللقضاء على ما سموه وقتها بالفساد واستهدفت من تم اجبارهم على اعتناق المسيحية من المسلمين واليهود ثم استهدفت المعتقدات المسيحية الأخرى وخاصة البروتستانتية وظهرت كلمة الهرطقه، وهي وصف لمن اختلف معهم في الشرح المحدد للنص الإنجيلى من قبل الملتزمين في الكنيسه الكاثوليكية.
وكان توماس توركوما دا، وهو رجل دين منتسب للمسيحيه يرأس هيئة التفتيش للبحث عن هؤلاء الهراطقه، فيقوم بوعظهم وتعذيبهم وقتلهم إن لم يعودوا إلى كنف الكنيسه الكاثوليكيه، وكان يسمى بالمفتش العظيم أو جراند إنكويستر، وكان يعدم واحدًا على الأقل من كل عشرة أشخاص يمثلون أمام محكمته وكان ذلك بأسلوب خجلت منه الكنيسه الكاثوليكيه واعتذرت عنه للعالم.
كانت محاكم التفتيش وسيلة ملوك أسبانيا الصليبيين لتطهير أسبانيا من الهراطقة وجميع من يعتقد بغير الكاثوليكية. وذلك برغم المعاهدة الموقعة منهم.
ولكن حتى هذا الحل لم ينجح كليا في حل المشكلة الإسلامية في اسبانيا فكان ان لجأرا إلى الطرد الجماعي. ففي عام 1609- 1610 تم طرد ما لا يقل عن (275،000) شخص إلى البلدان الإسلامية المجاورة كالمغرب وتونس والجزائر بل وبعض البلدان المسيحية الأخرى. وهكذا تم حل المشكلة عن طريق الاستئصال الراديكالي.
و يكفي أن ننقل ما سطره غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" حيث يقول عن محاكم التفتيش: «يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائضنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرين على المسلمين المنهزمين، فلقد عمدوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع. واقترح القس "بليدا" قطع رؤوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين عربي». وكان الراهب بيلدا قد قتل في قافلة واحدة للمهاجرين قرابة مئة ألف في كمائن نصبها مع أتباعه. وكان بيلدا قد طالب بقتل جميع العرب في أسبانيا بما فيهم المتنصرين، وحجته أن من المستحيل التفريق بين الصادقين والكاذبين فرأى أن يقتلوا جميعاً بحد السيف، ثم يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى، فيدخل النار من لم يكن صادقاً منهم. يقول د. لوبون: «الراهب بليدي أبدى ارتياحه لقتل مئة ألف مهاجر من قافلة واحدة مؤلفة من 140 ألف مهاجر مسلم، حينما كانت متجهة إلى إفريقية».
محاكم التفتيش الرومانية
بعد اندلاع حركة الإصلاح الديني وحركة النهضة في القرن السادس عشر أصبح العدو الأول لروما والفاتيكان شخصين اثنين هما: البروتستانتي والنهضوي. بمعنى آخر أصبح مارتن لوثر هو العدو، وكذلك ايراسم زعيم عصر النهضة. ولذلك اطلق البابا فتواه الشهيرة بتكفير لوثر وفصله من الكنيسة عام 1521.
وبدءا من تلك اللحظة انقسم العالم المسيحي في أوروبا إلى قسمين: قسم كاثوليكي وقسم بروتستانتي. ودارت بينهما المعارك والحروب على مدار مئتي سنة تقريبا. وهي حروب الأديان الشهيرة التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى. وبلغت هذه الحروب ذررتها في فرنسا في الفترة الواقعة بين عامي 1562-1598. فقد هاجت الجماهير الكاثوليكية على أفراد الاقلية البروتستانتية في مختلف المدن والأرياف الفرنسية. وكان ان حصلت تلك المجزرة الشهيرة باسم مجزرة سانت بارتيليمي التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شخص. وفر البروتستانت الفرنسيون إلى مختلف أنحاء أوروبا. ولا تزال بعض عائلاتهم تحافظ على اسمائها الفرنسية حتى الآن بعد ثلاثمئة سنة من إقامتها في ألمانيا، أو هولندا، أو السويد، أو إنجلترا.
وكان ذلك أبان عهد الملك لويس الرابع عشر، الملقب بالملك - الشمس نظرا لسطوته وهيبته. وقد اعتذر البابا للبروتستانت هذا العام عن مجزرة سانت بارتيليمي واعترف ضمنيا بالتعصب الكاثوليكي والاعمال الوحشية التي ارتكبوها بحق اخوانهم البروتستانت. فعلى الرغم من انهم جميعا مسيحيون، إلا أن الحزازات المذهبية كانت شديدة بينهم، ولكن البروتستانت فعلوا الشيء ذاته مع الكاثوليك في البلدان التي كانوا يمثلون فيها الأغلبية.
أعمال مشتقة
محاكم التفتيش أصبحت موضوع للكثير من الأعمال الأدبية، مثل:
كانت المحاكم الأسبانية موضوع المسرحية الكلاسيكية "لا أحد يتوقع محكمة التفتيش الأسبانية!"، والتي أُشير إليها بفيلم الأبواب المنزلقة.
القصة القصيرة لإدغار آلان بو الحفرة والبندول تدور أحداثها أثناء محاكم التفتيش الأسبانية.
القصة التاريخية "جورجان" التي كُتِبَت بواسطة هري ترتلدف ورتشارد دريفس تبقى فيها محاكم التفتيش الأسبانية قائمة، في اسبانيا نفسها وتمتد إلى أمريكا اللاتينية، طوال القرن الثاني عشر كله.
قصيدة الشعر الهجائية كانديد لفولتير تحتوي مشهد حيث تجد المحكمة أن كل من الراوي ودكتور بانجلس مذنبين بالهرطقة.