الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالآثارُ المرويةُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الناهيةُ عن تغييرِ الشيب ضعيفةٌ لا تصلح للاحتجاج، وهي معارَضة بالأحاديث الصحيحة الآمرةِ بصبغ الشيب، واستحبابِ خِضابِه للرجل والمرأة بحُمْرَة أو صُفْرَة، والأفضلُ بالحناء والكَتَم، مع امتناع خضابه بالسواد لعموم قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبِغُونَ فَخَالِفُوهُمْ»(١)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الحَنَّاءُ وَالكَتَمُ»(٢)، أمَّا حرمةُ السوادِ فبقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حين جاء أبو بكر الصديقُ رضي الله عنه بأبيه: أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فأَسْلَمَ ورأسه ولحيته كالثَّغامة بياضًا، فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ»(٣)، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ -فِي آخِرِ الزَّمَانِ- كَحَوَاصِلِ الحَمَامِ، لاَ يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الجَنَّةِ»(٤)، فعُلِمَ والحالُ هذه أنَّ الأحاديث الناهيةَ عن تغيير الشيب لا تقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الآمرةِ بتغييره، وعلى فرض صِحَّتها جدلاً فيمكن الجمعُ بينها بحمل النهي عن تغيير الشيب بالسواد -كما تقدَّم-أو تغيير الشيب بِنَتْفِهِ.
قال ابن القيم في «تهذيب السنن»: «والصواب أنَّ الأحاديث في هذا الباب لا اختلافَ بينها بوجهٍ، فإنَّ الذي نهى عنه الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم من تغيير الشيب أمران: أحدهما: نتفه، والثاني: خضابه بالسواد كما تقدَّم. والذي أذن فيه هو صبغه وتغييره بغير السواد كالحناء والصفرة، وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم»(٥).
قلت: وأكثرُ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخضبون، كالشيخين: أبي بكر وعمر(٦)، وكذلك ابن عمر أبو هريرة وآخرون، وترك آخرون الخضاب كعلي بن أبي طالب، وأُبَيِّ بنِ كعب وأنسٍ وغيرِهم(٧)، والاختلافُ إنما هو في الأفضلية، والتركُ لا يدلُّ على كراهةِ الخضاب، وإنما يدلُّ على عدم وجوبه، ولا ينفي استحبابَه، بل غايةُ ما يدلُّ عليه جواز تركه. قال النووي: «واختلافُ السلف في فعل الأمرين بحسَبِ اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أنَّ الأمر والنهيَ في ذلك ليس للوجوب بالإجماع، ولهذا لم يُنكر بعضُهم على بعضٍ خلافه»(٨).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.