الحمد لله هذه المسألة من مسائل الغيب التي لا مجال للاجتهاد فيها ، وإنّما يتّبع فيها الوحي ، وقد صحّت عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عدّة في بيان أماكن أرواح العباد ؛ لذلك اختلف أهل العلم في تحديد أماكنها بناءً على اختلاف الأحاديث الواردة بذلك . والذي يظهر ءوالله أعلم – أنّ الأرواح على أشكال عدّة ، ولكلٍّ مكان خاصّ يختلف عن مكان الأخرى ؛ فإنّ النّصوص قد جاءت بأنّ منها ما يكون في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة ، وجاء في بعض النّصوص بأنّها تكون أسودة عن يمين آدم وعن يساره ؛ فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة عن شماله أهل النار ؛ فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى . وأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن شخص بعد الموت محبوس على باب الجنّة ، فقال : ( رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنّة ) ، وفي الحديث الصّحيح : ( ومنهم من يُحبس في قبره بسبب الدَّين ، ومنهم من حبس في قبره في غلّة غلّها ) ، ومن الأرواح ما يكون مقرّه عند باب الجنّة ، كما جاء في حديث ابن عبّاس : ( الشّهداء على بارق ) ، ما هو بارق ؟ ( قال : نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنّة بكرةً وعشياً ) . حديث صحيح . فالأرواح منها ما هو في مراتب عليا ، تسرح في الجنّة مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين ، ومنها ما يكون على بارق ءنهر بباب الجنّةء يخرج رزقهم من الجنّة إليهم بكرة وعشياً ، ومنها ما يكون في قناديل ، ومنها ما يأوي تحت العرش ، ومن الأرواح ما يكون محبوساً في الأرض لا يرفع إلى الملأ الأعلى ، ومنها ما يكون محبوساً في تنور من نار يأتيهم النّار من أسفل فيضجّون ويصيحون ، وهؤلاء هم الزناة والزواني ، وقد أخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن حالهم في الحديث الصّحيح : ( أرواح الزناة والزواني تحبس في تنور من نار يعذّبون إلى أن تقوم السّاعة ) . هذا عذابهم في البرزخ ، وكذلك أكلة الربا الذين رآهم النّبيّ ء صلّى الله عليه وسلّم ء يسبحون في نهر الدم ويلقمون الحجارة ، ويسبحون والحجارة في بطونهم في نهرٍ من دم منتن ، كما كانوا يأكلون الربا في الدنيا . ومع أن الأرواح لها أحوال مختلفة ، في أماكن مختلفة ، فإنه يبقى لها اتّصال بالبدن في الأرض ، ولو كانت تطير وتسرح في أنهار الجنة في أعلى علّيّين .
قال ابن قيّم الجوزيّة في كتابه "الرّوح" (1/90-92) : " هذه مسألة عظيمة تكلّم فيها النّاس واختلفوا فيها ، وهى إنّما تتلقّّّى من السّمع فقط ، واختلف في ذلك :
فقال قائلون : أرواح المؤمنين عند الله في الجنّة ، شهداء كانوا أم غير شهداء ؛ إذا لم يحبسهم عن الجنّة كبيرة ولا دين ، وتلقّاهم ربّهم بالعفو عنهم والرّحمة لهم . وهذا مذهب أبى هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم .
وقالت طائفة : هم بفِناء الجنّة على بابها ، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها .
وقالت طائفة : الأرواح على أفنية قبورها . وقال مالك : بلغني أنّ الرّوح مرسلة تذهب حيث شاءت.
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله : أرواح الكفّار في النّار، وأرواح المؤمنين في الجنّة.
وقال أبو عبد الله بن منده : وقال طائفة من الصّحابة والتّابعين : أرواح المؤمنين عند الله عزّ و جلّ ولم يزيدوا على ذلك .
قال : روي عن جماعة من الصّحابة والتّابعين : أرواح المؤمنين بالجابية ، وأرواح الكفّار ببَرَهوت بئر بحضرموت .
وقالت طائفة : أرواح المؤمنين ببئر زمزم ، وأرواح الكفّار ببئر برهوت .
وقال سلمان الفارسيّ : أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت ، وأرواح الكفّار في سجّين ، وفي لفظ عنه : نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت . وقالت طائفة : أرواح المؤمنين عن يمين آدم ، وأرواح الكفّار عن شماله .
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم : مستقرّها حيث كانت قبل خلق أجسادها " .
انتهى بتصرّف يسير .
وقال ابن أبي العزّ عقب ذكر الأقوال في المسألة في شرح "العقيدة الطّحاويّة" (1/396) : " ويتلخّص من أدلّتها : أنّ الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت فمنها : أرواح في أعلى علّيّين في الملأ الأعلى ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وهم متفاوتون في منازلهم ، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشّهداء لا كلّهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه ، ... ومن الأرواح من يكون محبوسًا على باب الجنّة ، ومنهم من يكون محبوسًا في قبره ، ومنهم من يكون في الأرض ومنها أرواح في تنور الزّناة والزّواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، كلّ ذلك تشهد له السنة والله أعلم ". انتهى بتصرّف . والله أعلم²