25 - حق المنعم عليك بالولاء:
(وأما حق المنعم عليك بالولاء فتعلم أنه أنفق فيك ماله، وأخرجك من ذل حق الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها، وأطلقك من أسر الملكة وفك عنك حلق العبودية، وأوجدك رائحة العز، وأخرجك من سجن القهر، ودفع عنك العسر، وبسط لك لسان الإنصاف، وأباحك الدنيا، فملكك نفسك، وحل أسرك، وفرغك لعبادة ربك، واحتمل بذلك التقصير في ماله، فتعلم أنه أولى الخلق بك بعد أولي رحمك في حياتك وموتك، وأحق الخلق بنصرك ومعونتك ومكافأنك في ذات الله فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك).
كان الرق سائداً في المجتمع الجاهلي ولما جاء الإسلام عمد إلى ترغيب الناس في تحرير العبيد وتخليصهم من نير الاستعباد، وقد شجع النبي الأكرم والأئمة الأطهار من بعده على تحرير الرقيق بشتى صوره وأشكاله. فتسابقوا جميعهم (عليهم السّلام) إلى عتق العبيد فالإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أعتق ألف مملوك من كد يمينه وعرق جبينه، وحفيده الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كانت إحدى خصائصه عتقه للعبيد حيث كان يشتريهم ويقوم بتعليمهم وتهذيبهم ثم يحررهم لوجه الله، فكان العبد عنده لا يستقر أكثر من ستة أشهر إلى سنة.
إن هذا التصرف العظيم ينطلق من قاعدة أساسية وهي إرادة الحرية لجميع الناس وينسجم مع نظرة الإسلام إلى كون الناس أحراراً والرق حالة طارئة يجب أن تزول، وقد جعل تحرير العبيد كفارة لبعض الذنوب.
فعلى الإنسان الذي عادت إليه حريته أن يشعر بهذه النعمة الكبيرة التي تمت على يد هذا المنعم الذي أطلق سراحه وأعتق رقبته. وليعلم أن تحريره نعمة تفرض عليه الشعور بأن هذا المنعم هو أولى الناس به بعد أهله وأرحامه في حياته وموته، لأنه أطلقك من سجن العبودية وملكك نفسك وفرغك بعبادة ربك واحتمل ذلك التقصير في ماله لذلك لا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك.
26 - حق المولى:
(وأما حق مولاك، الجارية عليه نعمتك، فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه، وواقية وناصراً، ومعقلاً، وجعله لك وسيلة، وسبباً بينك وبينه، فالحري أن يحجبك عن النار فيكون في ذلك ثواب منه في الآجل ويحكم لك بميراثه في العاجل إذا لم يكن له رحم مكافأة لما أنفقته من مالك عليه وقمت به من حقه بعد إنفاق مالك، فإن لم تخفه خيف عليك أن لا يطيب لك ميراثه، ولا قوة إلا بالله..).
دعا الإمام (عليه السّلام) المسلمين إلى مراعاة حقوق أرقائهم فإن الله قد جعلهم عليهم وكلاء، فاللازم عليهم مراعاة حقوقهم، ومعاملتهم معاملة كريمة، والإحسان إليهم بكل ما يمكن إحسانه، فإن فعلوا ذلك وقاموا به فإن الله يجازيهم على ذلك ويجعل إحسانهم إليهم وقاية لهم من النار في الآخرة لما يحققونه من أجر وثواب.
27 - حق صاحب المعروف:
(وأما حق ذي المعروف عليك، فأن تشكره وتذكر معروفه وتنتشر له المقاله الحسنة وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه، فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سراً وعلانية. ثم إن أمكن مكافأته بالفعل كافأته وإلا كنت مرصداً له موطناً نفسك عليها..)(1).
فاعل المعروف رجل خيّر طابت نفسه وسخت كفه حتى أصبح فعل الخير سجية من سجاياه، يبادر إلى فعله عندما يعلم به دون سؤال ولا التماس طلب. يقوم بعمله هذا وهو يشعر بلذة وارتياح نفسي.
وحسن هذا المعروف أن يبقى طي الكتمان لا يعرف به إلا صاحبه أما إذا أراد صاحب المعروف أن يكسب شهرة بمعروفه طمعاً بتحقيق مصالح شخصية ومآرب خاصة فإنه لا يستحق المدح ولا الثناء ويذهب معروفه باطلاً مهما كان كبيراً. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاءَ الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صنوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا)(2).
أما إذا كانت نفوس أهل الخير طاهرة تريد الخير لوجه الله تعالى فعلى المحسن إليه تقديم الشكر لهم ونشره بين أفراد المجتمع حتى يتسابق أهل الخير إلى الخيرات فيما بينهم.
ثم من واجب المحسن إليه أيضاً المبادرة بالدعاء إلى من أحسن إليه اعترافاً منه بالجميل ثم يترقب الفرص المناسبة ليرد لهم إحسانهم وجميلهم عند استطاعته.
28 - حق المؤذن:
(وأما حق المؤذن فأن تعلم أنه مذكرك بربك، وداعيك إلى حظك، وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك، فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك وإن كنت في بيتك متهماً لذلك، لم تكن لله متهماً في أمره، وعلمت أنه نعمة من الله عليك، لا شك فيها فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها على كل حال، ولا قوة إلا بالله..).
الله أكبر.. نشيد من أناشيد السماء يرتله المؤمنون على هذه الأرض المباركة فينعش قلوبهم المفعمة بالإيمان ويحرك فيها الصلة بالله تعالى.
بهذا النشيد الرباني تحطمت عروش السلاطين الظالمين وزالت دول الجبارين الفاسدين إلى غير رجعة.
بهذا النشيد السماوي نشط المجاهدون الأبطال وأحرزوا الانتصارات الباهرة، وفتحوا الفتوحات الزاهرة، وأرشدوا الناس إلى الحياة الحرة الكريمة.
(أشهد أن لا إله إلا الله) شهادة وجدانية تتجسد في رفض كل الآلهة البشرية ما عدا الله الواحد الأحد وله الحكم والمحيي والمميت.
وأشهد أن محمداً رسول الله: شهادة إقرار أن محمداً رسول من الله المبلغ لكلامه المتلقي منه الوحي والبيان. إنه المبلغ عن الله أحكامه ولا يجوز التوجه إليه عن الطرق الأخرى المخالفة له.
حي على الصلاة: الصلاة التي ترفع بالمصلي إلى أرقى درجات الكمال والفضيلة، وهي التي تنهي عن الفحشاء والمنكر وتبني الإنسان ليعيش عزيزاً كريماً عظيماً.
حي على الفلاح: يريد الله لعباده المؤمنين أن يتسلموا مقاليد الحياة ويقودوا العالم نحو الخير والصلاح.
حي على خير العمل: تجعل المسلم يتفاعل مع أحكام الله وتشد عزيمته إلى المسيرة الحياتية الكريمة.
والرافع لهذا النشيد السماوي هو المؤذن المذكر بالله تعالى والمحرك لهذا الإنسان نحو الصلاة فحق له أن يشكر ويحسن إليه.. هذه هي وصية الإمام (عليه السّلام) إلى المسلمين ليحسنوا إلى الذي يعلمهم بدخول وقت الصلاة وهي من أهم الفرائض الدينية في الإسلام.
29 - حق إمام الجماعة:
(وأما حق إمامك في صلاتك فأن تعلم أنه تقلد السفارة في ما بينك وبين الله، والوفادة إلى ربك، وتكلم عنك ولم تتكلم عنه، ودعا لك ولم تدع له، وطلب فيك ولم تطلب فيه، وكفاك هم المقام بين يدي الله، والمسألة له فيك، ولم تكفه ذلك، فإن كان في شيء من ذلك تقصير كان به دونك، وإن كان آثماً لم تكن شريكه فيه، ولم يكن لك عليه فضل، فوقى نفسك بنفسه، ووقى صلاتك بصلاته فتشكر له على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله..).
صلاة الجماعة فيها أجر كبير وسر دقيق وبالخصوص إذا كانت خلف إمام اكتملت فيه شروط الإمامة.
وصلاة الجماعة لها دلائل عدة منها: المساواة بين المسلمين فلا يفضل شخص على آخر مهما كان مركزه وظروفه، فمن سبق إلى المكان يكون أحق به.
وتدل أيضاً على وحدة المسلمين في الكلمة والموقف، فالجميع ينضمون تحت لواء التوحيد لله والطاعة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما أنها تدل على حسن النظام في الإسلام، فالصفوف كلها خلف إمام واحد ينوب عنهم في قراءة الفاتحة والسورة ويبلغ مرادهم. والجميع يثقون بعدالته وتقواه والتزامه بمنهج الإسلام.
ولإمام الجماعة فضل كبير على المؤمنين به، وذلك لما يترتب من الثواب الجزيل على الجماعة. وقد تضافرت الأخبار باستحباب صلاة الجماعة وأنه كلما ازداد عدد المصلين جماعة ازداد ثوابهم وتضاعف أجرهم. ومن المعلوم أن ما يظفر به المأموم من الثواب الجزيل إنما هو بسبب إمام الجماعة الذي تقلد السفارة في ما بين المأموم وبين الله تعالى فهو مندوب عن المصلين يحمل أفكارهم ومشاعرهم بين يدي الله يخاطبه عنهم. وبذلك فقد تحمل الإمام عنهم أعباء القراءة في حين أن المأموم لم ينب عنه بشيء. ولهذه الجهة وغيرها فحق له الشكر وهذا ما أشار إليه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في رسالته الكريمة هذه ذلك إن قصّر أثم هو دونك ولحقته جريرة ذنبه دونك فبصلاته وقى صلاتك وبنفسه وقى نفسك من النار فهو المسؤول والمحاسب عنك فحق له الشكر والثناء.
30 - حق الجليس:
(وأما حق الجليس فأن تلين له كنفك وتطيب له جانبك وتنصفه في مجاراة اللفظ ولا تفرقه في نزع اللحظ إذ لحظت وتقصد في اللفظ إلى إفهامه إذا نطقت، وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار، وإن كان الجالس إليك كان بالخيار، ولا تقوم إلا بإذنه ولا قوة إلا بالله).
راعى الإسلام جميع الآداب الاجتماعية ومنها أدب المجالس فمن أدب الجالسين أن يفسحوا للقادم إليهم مهما كان ضيق المكان ليشعروه بالتقدير والاحترام عملاً بقول الله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم..)(3).
ومن أدب الداخل إلى المجلس أن يجلس حيث يجد فراغاً ملائماً طبقاً لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إجلس حيث انتهى بك المجلس) ومن أدب الجالسين بعضهم مع بعض أن يشعروا أنفسهم باحترام بعضهم البعض فلا يتكلم أحدهم بخشن الكلام أو وهو غير ملتفت إلى مخاطبه أو بعبارات نابية. لأن المجالس في الإسلام لها آدابها واحترامها، والإمام زين العابدين يتحفنا من هذه الآداب بما يلي:
1 - أن يلين الجليس جانبه لجليسه ولا يتلفظ بكلام فيه غلظة وشدة تنفر منها الطباع.
2 - أن يطيب له جانبه وذلك بتقديره وتكريمه.
3 - أن ينصفه إذا خاض معه الحديث ولا يظهر الاستعلاء عليه.
4 - أن لا يبالغ كثيراً في أمره.
5 - أن يقتصد بإفهامه عندما يوجه إليه الكلام.
6 - إذا جاء قبله فعليه الاستئذان منه إذا أراد القيام وإذا جاء بعده فهو بالخيار في المقام. قال الإمام (عليه السّلام): (وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ولا تقوم إلا بإذنه).
ما نلفت إليه أن هذه الآداب لو طبقها المسلمون على واقع حياتهم
لسادت المحبة والوئام في ما بينهم وزالت الحزازات التي تفرق بينهم وتباعد بين جماعاتهم.
31 - حق الجار:
(وأما حق الجار فحفظه غائباً، وكرامته شاهداً، ونصرته ومعونته في الحالين جميعاً، لا تتبع له عورة، ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولا تكلف، كنت لما علمت حصناً حصيناً، وستراً ستيراً، لو بحثت الألسنة عنه لم تتصل إليه لانطوائه عليك، لا تستمع إليه من حيث لا يعلم، لا تسلمه عند شديدة، ولا تحسده عند نعمة. تقيل عثرته وتغفر زلته، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك، ولا تخرج أن تكون سلماً له، ترد عنه الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله..).
اهتم الإسلام بالجار اهتماماً بالغاً وجعل له حقوقاً كثيرة تنطلق من حب التعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان. والله تعالى أوصى بالإحسان إلى الجار. قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب)(4).
وقد تضافرت الأخبار عن أئمة الهدى (عليه السّلام) بالوصاية والعناية في أمور الجار وذلك لإيجاد التضامن الاجتماعي بين المسلمين. يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام): (وأوصانا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالجار حتى ظننا أنه سيورثه) وحتى لو كان الجار كافراً فرض له الإسلام حقوقاً. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد.
فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار، وحق القرابة وحق الإسلام.
والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار.
والجار الذي له حق واحد، الكافر له حق الجوار.
ولهذا يتوجه الإمام زين العابدين(عليه السّلام) في رسالته ليلقي الأضواء الكاشفة على حقوق الجار. وهي:
1 - أن يحفظ الجار جاره في حال غيابه، فلا يستغل غيابه للنيل منه والاعتداء على كرامته.
2 - أن يكرمه في حال حضوره وينصره ويعينه في حال غيابه.
3 - أن لا يتتبع أي عورة أو منتقصة له ولا يبحث له عن سوءة وعليه أن يحفظ له حريمه ومعايبه وإن عرف بشيء من ذلك ستره ضمن أسراره.
4 - أن لا يستمع لحديثه اختياراً بدون علمه ولا يجوز له أن يسترق السمع ليأخذ منه ما لا يرضى، لأن الإسلام يريد من الجار أن يمتنع عن كل ما يعكر صفو الود والوفاق ويلتقي المسلم مع المسلم بقلب طاهر ووجه باسم دون أن يكون هناك أي حذر يسيء الظن. لأن ذلك يفرق بين الناس والإسلام يدعو إلى الإلفة والتضامن ورص الصفوف.
5 - ومن حق الجار أن لا يسلم جاره عندما تنزل به شدة أو تلم به مصيبة بل عليه أن يعينه بنفسه وماله وما ملكت يداه وإذا حصلت له نعمة فليفرح معه ولا يحسده عليها.
6 - الحلم عنه إذا بدرت منه بادرة سوء، وعدم مقابلته بالمثل.
7 - صد من يشتمه أو يذكره بسوء.
8 - يعيش معه بترفع وإباء فيصفح عنه إذا زل أو أخطأ ويحلم عليه حتى يرجع إلى رشده، ولا يصدق أية وشاية أو كلمة سوء ممن يريد أن يلقي بينهما العداوة والبغضاء.
لقد دعانا الإمام زين العابدين لنتمسك بتعاليم الدين الإسلامي
العظيم وشريعته الكريمة حيث لا نجد دعوة في العالم تتبنى ما تبناه الإسلام في حق الجار ولا نظن أن هناك شريعة أعطت للجار من الحقوق ما أعطاه الإسلام.
32 - حق الصاحب:
(وأما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلاً وإلا فلا أقل من الإنصاف، وأن تكرمه كما يكرمك، ونحفظه كما يحفظك، ولا يسبقك في ما بينك وبينه إلى مكرمة، فإن سبقك كافأته، ولا تقصر به عما يستحق من المودة تلزم نفسك نصيحته وحياطته، ومعاضدته على طاعة ربه ومعونته على نفسه في ما لا يهم به من معصية ربه ثم تكون عليه رحمة، ولا تكون عليه عذاباً، ولا قوة إلا بالله..).
ليست الصحبة في الإسلام تعارفاً عابراً وجاذبياً بل لها حقوقها التي يجب مراعاتها على كل صاحب تجاه صاحبه. فالصاحب يكتسب من صاحبه عاداته وأخلاقه، وتقاليده وأفكاره، وكما قال المثل: قل لي من تعاشر أقل لك من أنت.
وقد أمر الإسلام باختيار الأصحاب الذين يقربونه من الله ويعينونه عند الضيق. وعلى الإنسان أن يتمهل في اتخاذ الصديق كما عليه أن يتمهل في تركه. قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): (لا تصحب إلا عاقلاً تقياً ولا تخالط إلا عالماً زكياً ولا تودع سرك إلا مؤمناً وفياً).
وقد حدد الإمام زين العابدين حقوق الصاحب على صاحبه وهي:
1 - أن تكون المصاحبة على الفضل والمعروف وليس لغايات خاصة.
2 - أن يحفظ كل منهما صاحبه في حضوره وفي غيابه.
3 - أن تقوم المصاحبة على المودة الصادقة والإخاء الصافي والمحبة الخالصة.
4 - أن يقدم كل صاحب لصاحبه النصيحة ولا يقصر به عما يستحق من المساعدة.
5 - أن يعضد كل منهما صاحبه على طاعة الله تعالى والتجنب عن معاصيه فيعينه في دنياه وفي آخرته.
6 - أن تكون الصداقة نعمة ورحمة فلا يغير على صاحبك سلطة تسلمها أو مال حصل عليه.
33 - حق الشريك:
(وأما حق الشريك فإن غاب كفيته، وإن حضر ساويته، ولا تعزم على حكمك دون حكمه، ولا تعمل برأيك دون مناظرته، وتحفظ عليه ماله، وتنفي عنه خيانته في ما عز وهان فإنه بلغنا إن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا، ولا قوة إلا بالله).
لقد أباح الإسلام الشركة في العقود وعمل بها المسلمون وقد حدد الفقهاء شروطها وذكروا موانعها.
واختيار الشريك أمر هام ذلك أن العاقل يعرف كيف يختار الشريك الأمين التقي، الورع الذي يخاف الله فإذا كان الشريك بهذه المواصفات من الأمانة والعفة والنزاهة عندئذٍ يأتي دور التربية الإسلامية التي تنبه الشريك كيف يجب أن يعامل شريكه. والإمام زين العابدين (عليه السّلام) تحدث عن صفات الشريك وواجباته تجاه الشريك الآخر منها:
1 - إذا غاب عليه أن يكفيه في عمله وينوب عنه في أداء حقه وإذا حضر معه عليه أن يساويه بنفسه فلا يتميزعنه.
2 - فلا يمضي رأياً دون رأيه ولا ينفذ ما يريده دون علمه، بل عليه مشاورته وأخذ رأيه فيما يقدم عليه من عمل يكون مشتركاً بينهما حتى يتحمل مسؤولية كاملة نحو ماله.
3 - على الشريك أن ينفي تهمة الخيانة عن شريكه فلا يتهمه بعد أن كان مصدر ثقة ولا يتصرف إلا ضمن موازين الشرع والحق. ذلك أن نفي الخيانة هي مرحلة مهمة للود والصفاء بين الشركاء. فالثقة أهم شرط في دوام الشركة، وما نجده من الاختلاف بين الشركاء إنما كان في أكثر الأحيان نتيجة عدم التكافؤ بين الشريكين، ففي حين يكون أحدهما مؤمناً يكون الآخر مستهتراً أو فاسقاً، أو أنه مستبد برأيه فلا يعطي لشريكه الفرصة للتعبير عن رأيه. ولو عمل الشركاء بنصائح الإمام زين العابدين (عليه السّلام) لما وقع الخلاف بينهم ولنجحوا في شركتهم وحققوا هدفهم.
34 - حق المال:
(وأما حق المال فأن لا تأخذه إلا من حله، ولا تنفقه إلا في حله، ولا تحرفه عن مواضعه، ولا تصرفه عن حقائقه، ولا تجعله إذا كان من الله إلا إليه، وسبباً إلى الله، ولا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك، وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركتك ولا يعمل فيه بطاعة ربك، فتكون معيناً له على ذلك، وبما أحدث في مالك، أحسن نظراً لنفسه فيعمل بطاعة ربه فيذهب بالغنيمة، وتبوء بالإثم والحسرة والندامة مع التبعة، ولا قوة إلا بالله).
لا يخفى ما للمال من دور هام في ترفيه الإنسان وسعادته. هو وسيلة لقضاء حاجات الإنسان وليس هدفاً مقصوداً بذاته والإسلام لا يدعو الناس إلى الابتعاد عن لذات الحياة ولا يحارب المال، فالله جعله والبنين زينة حياة الإنسان. (المال والبنون زينة الحياة الدنيا).
كما أنه يكره الفقر والمسكنة ويجعل اليد العليا خير من اليد السفلى التي تمتد لتأخذ. لكن المال سلاح ذو حدين ويعود نفعه أو ضرره لجهة استعماله. فصاحبه يمكن أن يسعد به ويمد الإنسانية بأروع المشاريع، كما يمكنه أن يحول هذا المال إلى سيف قاطع يحول سعادة الإنسان إلى شقاء ودمار. وما نراه اليوم من أكثر المتمولين الذين أمدهم الله بالمال، يحولون هذا المال إلى معصية الله، حيث يستعملونه في سائر المحرمات كالخمر والقمار والربا وحفلات اللهو وغير ذلك من الأعمال المنكرة التي مجها الإسلام وعاقب عليها.
والإسلام يشجع على إنفاق المال في سبيل الله، فيصرف على الفقراء والمحتاجين ويتصدق به على المعوزين من إخواننا المسلمين وغير المسلمين. وذلك عملاً بقول الله عز وجل: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم...)(5).
والذي ينفق المال بهذه الطريقة في سبيل الله لا مناً ولا أذى يكسب رضا الله وتعود الفائدة عليه. قال تعالى: (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم..)(6).
ولا يخفى أن صلة الناس بالمال والتصدق عليهم من أبرز مصاديق الإحسان الذي يتبرع به الإنسان به الإنسان على الفقراء، من هنا سأل سائل الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: إنا لنحب الدنيا ونحب أن نؤتاها.
فقال الإمام (عليه السّلام): تصنع بها ماذا؟
قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأحج وأعتمر.
قال الإمام: ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة..
فإن صلة الناس بالمال والتصدق عليهم أبرز مصاديق الإحسان المحض الذي يتبرع به الإنسان على الفقراء والمحتاجين.
والإسلام يريد أن يكون المال الذي يجنيه الإنسان من الطرق الشرعية المحللة، لذلك وضع طرقاً لاكتساب المال إذا تجاوزها الإنسان لم يكن المال شرعياً. من هنا يوضح الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حيث يقول: (وأما حق هذا المال فأن لا نأخذه إلا من حله) ينفق في الوسائل المحللة والمشاريع الخيرية التي يثاب عليها كإنشاء المستشفيات ومعاهد التعليم وتأسيس المكتبات العامة وما شابه ذلك من المشاريع التي تفيد كافة الناس.
أما إذا جمعه صاحبه وادخره لورثته، فإن أنفقوه في طاعة الله فقد كسبوا رضى الله دونه وذهبوا بالغنيمة وإن أنفقوا في معصية الله فإثمه عليه لإعانته إياهم على المعاصي والحرام، وباء هو بالحسرة والخسران.
من هنا قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام): (ولا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركك ولا يعمل فيه بطاعة ربك فتكون معيناً له على ذلك..)(7).
35 - حق الغريم:
(وأما حق الغريم المطالب لك فإن كنت موسراً أوفيته وكفيته، ولم ترده، وتمطله، فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (مطل الغني ظلم) وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول، وطلبت منه طلباً جميلاً، ورددته عن نفسك رداً لطيفاً، ولم تجمع عليه ذهاب ماله، وسوء معاملته، فإن ذلك لؤم، ولا قوة إلا بالله..).
جاء الإسلام ونظم كل ما يحتاجه الإنسان في حياته الدنيا تنظيماً شاملاً ليكون جسر عبور سليم له إلى الآخرة. هذا التنظيم شمل جميع المعاملات واستوعب جميع ما يجري في الحياة من أبواب التجارة كالبيع والشراء، وأبواب الزراعة والجعالة، وأبواب الإجارة والسبق والرماية، وأبواب الشركة والمضاربة والوديعة، إلى آخر أبواب المعاملات.
هذه المعاملات نظمها الإسلام حسب الأصول هادفاً منها تمتين العلاقات بين المسلمين وتوثيق الروابط الاجتماعية من هذه المعاملات كان القرض وهو من الأمور المستحبة التي نادى بها الإسلام بعد أن حرم الربا وكل ما يسلب الفقير ماله. والقرض قربة إلى الله تعالى يوطد الصلة بين الأخوة ويزرع المحبة في قلوبهم لأنه يفك أسر المحتاج وينقذه من ضيق يضنيه ويغنيه عن أرباب المال المستغلين. والقارض أعطى للمستقرض فرصة واسعة حتى يؤدي دينه فلم يحصرة بأجل معين أو يضغط عليه في الوفاء. بل عليه أن يرد المعروف لصاحبه ولا يسوف في الأداء. أما إذا لم يتوفر مال القرض فعلى أربابه أن يراعوا أحوال المستقرض حتى تتيسر الأمور. قال تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة..)(
.
وقد أشار الإمام زين العابدين أن على المستدين أن يتلطف إلى أرباب المال ويقابلهم بالكلمة الطيبة ويردهم رداً جميلاً (فإن كنت موسراً أوفيته وكفيته ولم ترده وتمطله) ثم يتابع الوجه الآخر: (وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول) إن لم ترضه بأداء الدين. وإذا لم يسلك الدائن هذا السبيل فإن ذلك لؤم.
36 - حق الخليط:
(وأما حق الخليط فأن لا تغره ولا تغشه ولا تكذبه ولا تغفله ولا تخدعه ولا تعمل في انتقاصه عمل العدو الذي لا يبقى على صاحبه وإن اطمأن إليك استقصيت على نفسك وعلمت أن غبن المسترسل رباً، ولا قوة إلا بالله..).
الخليط كالشريك والجليس وليس عابر سبيل فعليك أن تحافظ عليه ولا تغشه عملاً بقول الرسول الأعظم (من غشنا فليس منا) فالغش لعامة الناس أمر سيء ومرذول فكيف به للخليط كما لا يجوز لك تكذيبه لأن ذلك يعد من الطعن فيه وعدم الثقة. ومن شروط المخالطة أن يكون الخليط قوي الإيمان، صادق اللهجة محباً للحق ملتزماً بأوامر الله تعالى؛ وإلا كان الخليط منحرفاً عن الحق سيئاً لا يقيم وزناً لدين أو إيمان، فالبعد عنه خير من الاقتران به، لأن من يكون مسلكه كذلك فإنه يضل صاحبه ويحرفه عن جادة الاستقامة والقرآن الكريم للذين يتخذون خليلاً غير صالح. قال تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً)(9).
والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يحذرنا من اتخاذ المغفل والمخادع خليلاً ويطلب إلينا أن لا نعيبه ولا ننقصه لأن ذلك ليس من فعل الخلطاء بل هو من فعل الأعداء، لأن العدو هو الذي يتحين الفرص للنيل من عدوه.
37 - حق الخصم:
(وأما حق الخصم المدعي عليك فإن كان ما يدعيه عليك حقاً لم تتفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود فإن ذلك حق الله عليك وإن كان ما يدعيه باطلاً رفقت به وردعته وناشدته بدينه وكسرت حدته عنك بذكر الله وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك بل تبوء بإثمه وبه يشحد عليك سيف عداوته لأن لفظة السوء تبعث الشر والخير مقمعة للشر ولا حول ولا قوة إلا بالله..).
النظم الإسلامية من أرقى ما جاءت به الشرائع في العالم فأين هي القوانين الوضعية المنحرفة من القوانين الإلهية المنزهة؟ وقد تعرّض الأئمة الصالحين والفقهاء العالمين للقضاء فحللوا مسائله وحددوا مواصفات القاضي وآدابه وبينوا المنهج الذي يكون عليه القضاء. والإمام زين العابدين يريد في رسالته هذه أن يدخل إلى أعماق النفس ليحررها من الشذوذ ويعود بها إلى طاعة الله ورسوله. فيذكر الإنسان الذي أقيمت عليه الدعوة. فإن كانت صادقة من صاحبها فعليه أن لا يبطلها ويبطل الحق الذي تعلق بها، فيرده إلى أهله. كما عليه أن يحاسب نفسه في هذا الموقع فيخاصمها إن جنحت به عن الحق فيحكم بالحق دون أن ينظر إلى الشهداء كي يدلوا بشهاداتهم عليه، لأن ذلك هو حق الله ولا يجوز للمسلم أن ينقض حقاً من حقوق الله. أما إذا أراد أن يأخذ أموال الناس بالباطل من خلال فصاحة لسانه فإنه سيحاسب على فعله الشنيع ويعاقب على تصرفه الضال. ذلك أن كل حق يأخذه من الناس في غير موضعه إنما هو قطعة من النار تحرقه يوم القيامة. إن من يأكل أموال الناس بالباطل إنما يجني على نفسه لأنه سوف يقف أمام حاكم عادل لا يحتاج إلى بينة أو شهود، لأنه يعلم ما في السرائر وما تكنه الصدور أما إذا كانت الدعوى الموجهة ضدك باطلة فالإسلام يأمر أن يرده بالرفق والموعظة الحسنة التي ترده إلى دينه وتحرك فيه إيمانه الذي يربطه بخالقه، ولا يجب أن نستعمل اللغط واللجاج لأن ذلك لا ينفع ولا يقطع الدعوى من مجاريها بل ربما يجني على الشريف الشر والغم.
38 - حق المدعى عليه:
(وأما حق الخصم المدعى عليه، فإن كان ما تدعيه حقاً أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى، فإن للدعوى غلظة في سمع المدعى عليه، وقصدت قصد حجتك بالرفق وأمهل المهلة وأبين البيان وألطف اللطف ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال فتذهب عنك حجتك ولا يكون لك في ذلك درك، ولا قوة إلا بالله..).
لقد شدد الإسلام على منع الترافع إلى الظلمة الذين انحرفوا عن العدل والحق وسلكوا طرقاً فاسدة يتبرأ منها الدين. وعن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال: إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه حكماً بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه).
والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يعطينا درساً مفيداً في كيفية الترافع وكيف نقدم حجتنا. فإذا كان المدعي علىحق في دعواه، فأوصاه أن يتجنب الكلمات النابية مع خصمه، بل يقابله بالبيان الواضح والحجة الظاهرة والكلمة الطيبة، كما عليه تجنب القيل والقال لأنهما لا يجديان شيئاً، ولا يرجعان حقاً بل ربما يذهب ذلك بالحق ويضيع ويخرج عن الهدف الرئيسي الذي من أجله كانت الدعوة.
39 - حق المستشير:
(وأما حق المستشير فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة وأشرت عليه بما تعلم أنك لو كنت مكانه عملت به وذلك ليكن منك في رحمة ولين فإن اللين يؤنس الوحشة وإن الغلظ يوحش موضع الأنس. وإن لم يحضرك له رأي، وعرفت له من يثق برأيه، وترضى به لنفسك دللته عليه، وأرشدته إليه فكنت لم تأله(10) خيراً ولم تدخره نصحاً ولا حول ولا قوة إلا بالله..).
ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن الأئمة المعصومين الحث على الاستشارة وعدم الاستقلالية في الرأي. فعلى المستشير أن يقف على عقول الآخرين ليدرك وجوه الحسن والقبح فيها.
ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار).
وقال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام): (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها).
فالاستشارة يجب أن تكون من رجل اجتمعت فيه شروط أهلته لذلك أولها وأهمها: العقل، يعقل الأمور ويحلها بروية بعيداً عن الميل والهوى.
والشرط الثاني: الالتزام الديني، أن يكون ملتزماً إسلامياً، ورعاً تقياً حتى لا يقوده انحرافه إلى مخالفة الحق والصواب.
والشرط الثالث: المعرفة والخبرة.
فإذا اجتمعت فيه هذه الشروط حق له أن يستشار وحق للناس أن يسمعوا له. أما إذا فقدت هذه الشروط فإن الاستشارة قد تسبب الضرر.
والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يطلب من المستشير على المشير أن يؤدي نصيحته له بلطف ولين لا شدة فيه، لأن الشدة تنفر منها الطباع وتستوحش منها القلوب، وإن عرف من يثق برأيه فليدله عليه، ويرشده له وبهذا يكون قد أدى واجبه اتجاهه وأسدى إليه خيراً ومعروفاً.
40 - حق المشير:
(وأما حق المشير عليك فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه، فأما تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة ولا تدع شكره على ما بدا لك من أشخاص رأيه وحسن وجه مشورته، فإذا وافقك حمدت الله، وقبلت ذلك من أخيك بالشكر، والإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك، ولا قوة إلا بالله..).
من الآداب الإسلامية التي يعلمها الإسلام لاتباعه، أدب المشاورة والوقوف على آراء الآخرين في القضايا التي يبغي حلها، فالإسلام في الوقت الذي يجعل للإنسان الاستقلالية في الرأي والاعتدال بالنفس يأمره
أن يقرن رأيه برأي غيره ثم يوازن بين كل هذه الآراء ليرى وجه الصواب.
والعاقل يختار أسلم الطرق وأنفعها وهذا ما يحصل عند الذين يملكون التجارب في الحياة والممارسة في حل مشاكل الناس عامة. أما حق المشير على المستشير فلا يتهمه في رأيه ولا يزهد في نصيحته وإذا اتهمه في رأيه فإنه غير ملزم بالأخذ به وإذا تطابق الرأيان فيجب أن يحمد الله ويقبل رأيه مقروناً بالشكر، كما عليه أن يرد هذا الموقف بموقف مماثل له فتشير عليه إذا فزع إليك.
41 - حق المستنصح:
(وأما حق المستنصح فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترى له أنه يحمل، ويخرج المخرج الذي يلين على مسامعه، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله، فإن لكل عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجتنبه، وليكن مذهبك الرحمة، ولا قوة إلا بالله..).
يريد الإمام زين العابدين أن يعطي درساً للمستنصح كيف يكون الأسلوب الذي تصاغ به النصيحة؟ وكيف يكون الحديث؟ فيطلب إلينا أن نقابل المستنصح بمر الحق والصراحة القاسية إذا لزم الأمر ولا نسايره بما يتفق مع حاجاته ورغباته وكل شخص وله أسلوبه الذي يجب أن نتعامل معه، فالعالم له أسلوبه الخاص به والجاهل له أسلوبه والعامل له أسلوبه والأمي له أسلوبه والأستاذ له أسلوبه والتلميذ له أسلوبه فكل واحد من هؤلاء له خطابه الخاص يخاطب به.
ثم إن من حق طالب النصيحة أن تؤدى إليه بما يستطيع حمله وتقبله. وكما قال الرسول الأعظم: خاطبوا الناس على قدر عقولهم. والنصيحة يجب أن تقدم بأسلوب مرن وسلس لئلا يشق على المستنصح ذلك فيرفض النصيحة. وكم من نصيحة رفضت لأنها لم تستوف شروطها الموضوعية وكم من رجل صالح مخلص أصيب بخيبة أمل في رد النصائح التي أسدى بها إلى الآخرين وذلك لقساوته وعدم دراسته لحالة الطرف الآخر فتذهب عندها نصيحته أدراج الرياح.
42 - حق الناصح:
(وأما حق الناصح فأن تلين له جناحك، ثم تشرئب له قلبك(11)، وتفتح له سمعك، حتى تفهم عنه نصيحته، ثم تنظر فيها، فإن وفق فيها للصواب حمدت الله على ذلك وقبلت منه، وعرفت له نصيحته، وإن لم يكن وفق لها فيها رحمته، ولم تتهمه، وعلمت أنه لم يألك نصحاً إلا أنه أخطأ إلا أن يكون عندك مستحقاً للتهمة، فلا تعبأ بشيء من أمره على كل حال. ولا قوة إلا بالله..).
الناصح هو إنسان حكيم صقلت فكره التجارب وأكسبته الأيام خبرة واسعة أما لتجربة قام بها بنفسه أو لخبرة اكتسبها من ناصحين مخلصين. فمن حقه على السامع أن يصغي إليه لأنه يحمل له الإخلاص ويلقنه لباب الود الذي فيه نجابة. ومن حق الناصح أيضاً على المستنصح أن يكون معه لين الجانب متواضعاً، فيتوجه إليه بقلب متفتح يستمع الحديث ويحلله بوعي ودقة فلا يحوج الناصح إلى الإعادة والتكرار. وبعد الاستماع الجيد بالسمع والقلب ينظر فيما يعرض عليه من النصيحة فيقومها بإمعان ويحللها بموضوعية، فإن رأى وجه الصواب قد اكتمل فيه معالم الصحة فذلك توفيق من الله تعالى، يجب أن يحمده عليه ويقبله منه ثم يقبل النصيحة ويحفظها.
وأما إذا عرضها على نفسه وحللها ولم يجدها موافقة للصواب فإن كان ممن يتهم عنه أما لدينه أو أمانته وإخلاصه له فيجب عندها أن يرحمه ويستر عليه، ذلك أنه لم يقصر اتجاهك وإنما قد أخطأ عن غير عمد ففسر الأمر تفسيراً مخالفاً للواقع.
أما إذا كان متهماً عندك لأنه لم يستقص كل جوانب الموضوع أو أنه لا يريد لك الخير والفلاح فعليك أن تهمله ولا تعبأ بشيء من أمره بل تكله إلى الله فهو الذي يتولى الحساب.
43 - حق الكبير:
(وأما حق الكبير فإن حقه توقير سنه، وإجلال إسلامه. إذا كان من أهل الفضل في الإسلام بتقديمه فيه، وترك مقابلته عند الخصام ولا تسبقه إلى طريق، ولا تؤمه في طريق(12) ولا تستجهله، وإن جهل عليك تحملت وأكرمته بحق إسلامه مع سنه، فإنما هي حق السن بقدر الإسلام، ولا قوة إلا بالله..).
لقد سن الإسلام آداباً اجتماعية رائعة لا تقاس ولا من أي وجه بالآداب التي أفرزتها الحضارة المادية. وذلك من أجل بناء مجتمع أصيل تسود فيه المحبة والاحترام والتقدير فاحترام الشيخ الكبير واجب احترامه إذا كان من أهل الفضل والسابقة في الإسلام. أما مظاهر تكريمه فقد عرضها علينا الإمام (عليه السّلام) وهي:
1 - ترك مقابلته عند الخصام وفي المسائل التي توجب الجدل.
2 - إذا سار معه في طريق فلا يسبقه أو يتقدم عليه.
3 - إذا خفي على الشيخ بعض المسائل فلا يظهر جهله فيها.
4 - وإذا اعتدى عليه الشيخ فليتحمله ويكرمه من أجل إسلامه وكبر سنه.
هذه الآداب التي دعا إليها الإسلام ونفذها أئمة الهدى (عليهم السّلام) توطد
العلاقات الاجتماعية بين الناس وتصفي قلوبهم وتطهر نفوسهم، إنها آداب إنسانية يمدح فاعلها في الدنيا ويؤجر ويثاب في الآخرة.
44 - حق الصغير:
(وأما حق الصغير فرحمته، وتثقيفه، وتعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له، والستر على جرائر حداثته، فإنها سبب للتوبة والمداراة له، وترك مماحكته فإن ذلك أدنى لرشده..)(13).
الطفولة صورة ملائكية في الطهارة والبراءة وقد تظهر في عينيه الصافيتين وفي حركاته العفوية وفي جوارحه الناصعة؛ وفي كلماته البيضاء. والطفل كالعجين بين يدي مربيه يستطيعان صوغه رجلاً صالحاً عظيماً وبعيداً عن كل سوء وغش، رجلاً عقائدياً يؤثر الحق ويدافع عنه في كل آن.
أما إذا أهمل الوالدان تربية ولدهما فسوف تسود الصفحة البيضاء وتتحول القوة الإيجابية إلى قوة سلبية تخرب وتهدم وتعتدي على الآخرين بغير حق.
قال سيد البلغاء والحكماء أمير المؤمنين في وصيته لولده الحسن (عليهما السّلام): (إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء إلا قبلته).
والإسلام يعتبر الطفل أمانة بين يدي والديه كما يعتبره أمانة في يد المجتمع المتمثل بالشارع والمدرسة والجامعة فعلى هذه العناصر جميعاً رحمة هذا الطفل الطري العود وقد أعلن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حقوق الصغير على الكبير التي تعد من ركائز التربية الإسلامية وهي:
1 - رحمة الصغير والعطف عليه وعدم استعمال الشدة والقسوة لأنهما يخلقان فيه العقدة النفسية ويوجبان انحرافه عن الخط السليم.
2 - تعليمه وتثقيفه وفتح آفاق المعرفة أمام عينيه.
3 - الرفق به وإعانته في كل ما يحتاج إليه.
4 - الستر على جرائر حداثته وعدم نشرها.
5 - مداراته وترك مخاصمته لأن ذلك أفضل لرشده.
هذه الأصول التربوية التي أعلنها الإمام (عليه السّلام) توجب صلاح النشء وتهذيبهم وإصلاح المجتمع وترقيته إلى الأكمل والأفضل.
45 - حق السائل:
(وأما حق السائل فإعطاؤه إذا تهيأت صدقة، وقدرت على سد حاجته، والدعاء له في ما نزل به، والمعاونة له على طلبته، وإن شككت في صدقه، وسبقت إليه التهمة، ولم تعزم على ذلك لم تأمن من أن يكون من كيد الشيطان أراد أن يصدك عن حظك ويحول بينك وبين التقرب إلى ربك، تركته بستره ورددته رداً جميلاً. وإن غلبت نفسك في أمره، وأعطيته على ما عرض في نفسك منه، فإن ذلك من عزم الأمور..).
في الواقع السؤال ذل ولم يسمح به الإسلام إلا في أوقات الضرورة التي يتوقف عليها حفظ النفس من الهلاك. يد المسلم عزيزة مترفعة تأبى أن يتصدق أحد عليها. والإسلام دعا إلى العمل الجاد والكفاح الشريف وعدّ الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله. والمسلم الكريم يكسب قوته بعرق جبينه وكد يمينه من صنوف الموارد المحللة التي تؤمن العيش الرغيد. ولا يخفى أن الأرزاق بيد الله يرزق من يشاء وبغير حساب ولكن على الإنسان السعي والتحصيل والعمل الجاد، وبعد ذلك يأتي دور الله عز وجل في الإنجاح والتوفيق.
وعلى المؤمن أن يسأل مؤمناً مثله لأن السؤال إلى غير أهله مذلة ومهانة. وفي هذا قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) مخاطباً المؤمن: (ماء وجهك جامد يقطره السؤال فانظر عند من تقطره).
والإمام زين العابدين (عليه السّلام) يعلم المسؤول كيف يجب أن يتعامل مع السائل، يعلمه كيف يواجه الموقف بنفس راضية فيقول: وأما حق السائل فإعطاؤه إذا تهيأت صدقة. وأما إذا شك المسؤول في صدق السائل فلا يقابله بالجفاء بل يعامله بالعقل والورية والكلمة الطيبة، فلعل الوسوسة والشك إنما هما من الشيطان الذي يوسوس في صده ويمنعه عن ممارسة الخير وفعله وإذا لم يستطيع مقاومته وحال بينه وبين العطاء فلتكن كلمة المواساة والستر عليه وليكن الرد الجميل اللين.
46 - حق المسؤول:
(وأما حق المسؤول فحقه إن أعطي قبل منه ما أعطى بالشكر له والمعرفة لفضله وطلب وجه العذر في منعه وأحسن به الظن وأعلم أنه إن منع فماله منع، وإن ليس التثريب في ماله، وإن كان ظالماً فإن الإنسان لظلوم كفار..).
يتعرض الإمام هنا إلى حق المسؤول الذي أعطى وبذل ووهب والذي يمر بأشكال مختلفة ووجوه متعددة فتارة غني مترف وأخرى فقير مسكين، وتارة كريم سخي وأخرى بخيل غني والمسؤول يعطي عن طواعية ويشعر مع المحتاج همومه وآلامه ويمد يده ليقدم ما منحه الله من خير وعطاء. فمن أوليات حقوق السائل أن يقابل المسؤول بالشكر والدعاء له فيما إذا أكرمه وأعطاه، وإذا منعه فليحسن الظن به.
أما الإنسان القادر الذي يمنع السائل مع القدرة على عطائه فإنما يحجب ماله عن نفسه ويحرمها منه لأن الله قد أعد للمتصدقين الثواب الجزيل والأجر العميم.
47 - حق من سرك الله به:
(وأما حق من سرك الله به وعلى يديه، فإن كان تعمدها لك حمدت الله أولاً ثم شكرته على ذلك بقدره في موضع الجزاء، وكافأته على فضل الابتداء، وأرصدت له المكافأة، وإن لم يكن تعمدها حمــدت الله وشكرتـــه، وعـــلمت أنه منــه، توحــدك بها(14)، وأحببت هذا إذا كان سبباً من أسباب نعم الله عليك، وترجو له بعد ذلك خيراً، فإن أسباب النعم بركة حيث ما كانت، وإن كان لم يعتمد، ولا قوة إلا بالله..).
إن المسلم الذي يلتزم بالأخلاق الإسلامية يعيش مع الناس بأخلاق الرسل المصلحين والأئمة الطاهرين، فيصفح عنهم زلاتهم ويستر عوراتهم، ويبتسم في وجوههم، ويتواضع لهم ويتجنب إهانتهم وإذلالهم.
والإمام زين العابدين يرتفع بنفسية المسلم عن الإساءة إلى أخيه المسلم ليدخل في عداد العاملين على مسرته وانشراحه ومن يبادر إلى إدخال السرور على قلوب الناس هو من خيار الناس فقد أسدى إلى أخيه يداً بيضاء فالواجب يقضي عليه بأن يقوم بشكره، ويذكر إحسانه. ولا يخفى أن إدخال السرور على قلب المسلم يجعله يشعر أنك تهتم بسعادته كما يضفي جواً من الود والمحبة والصفاء...لكن هذا السرور يجب أن يتخذ الطريق الشرعي المباح دون ما يكون محرماً كما هو الحال عند بعض المتهاونين بالدين والمستهزئين بغيرهم.
أما إذا أقدم من سرك لله مختاراً فعليك شكره على هذه النعمة وإذا جاءت مسرتك عن يديه صدفة فإن الله تعالى هو الذي منَّ عليك بمثل هذه النعمة وعليك أن ترجو له الخير لأنها على أي حال عند صدرت عنه وكان سبباً لهذه النعم. وبالشكر تدوم النعم. والحمد الله رب العالمين الذي منّ علينا بنعم لا تحصى.
48 - حق من أساء القضاء:
(وأما حق من أساء القضاء على يديه بفعل أو قول فإن كان تعمدها كان العفو أولى بك، لما فيه من القمع وحسن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق فإن الله يقول: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليـــهم من سبيل... إلى قولـــه من عــــزم الأمـــور)(15). وقال تعالى أيضاً: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير الصابرين)(16).
وهنا يتعرض الإمام (عليه السّلام) للقضاة فيقول: إذا جاروا على أحد بقول أو فعل، وكان ذلك عن عمد، فالأولى الصفح والعفو عنهم عملاً بالآداب الإسلامية العالية التي حثت على العفو عن المسيء أما إذا صدرت الإساءة منهم عن خطأ فلا ينبغي مؤاخذتهم لأنهم لم يتعمدوا الظلم والجور.
49 - حق أهل الملة:
(وأما حق ملتك عامة فإضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك فإن إحسانه إلى نفسه إحسانه إليك، إذ كف عنك أذاه، وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه، فعمهم جميعاً بدعوتك، وأنصرهم جميعاً بنصرتك، وأنزلهم جميعاً منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ، فمن أَتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل أخال بما يجب للأخ على أخيه..).
لقد كرّم الإسلام الإنسان من أي ملة أو أصل كان ودعا إلى كرامته واحترامه عملاً بقوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(17).
فهذا التكريم من الله للإنسان يفرض بأي حال تكريم الإنسان للإنسان، والمسلم من واجبه تكريم المسلم الآخر، وللمسلمين حقوق عامة عليهم جميعاً رعايتها وهي حسب ما أعلنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام):
1 - إضمار السلامة وترجمتها بدرجة أعلى من السلامة والمودة والإخاء.
2 - على المسلم أن ينشر للمسلمين جناح الرحمة فلا يستعلي عليهم ولا يأخذهم بالعنف بل يعفو عنهم عملاً بأمر الله: (وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون خبير)(18).
3 - أن يرفق بمسيئهم ولا يقسو عليه وذلك لإصلاحه وتقويمه.
4 - أن يعمل على تآلفهم ووحدة كلمتهم ورص صفوفهم.
5 - أن يشكر كل محسن منهم على إحسانه ويشجعه على هذه الظاهرة الكريمة التي تعود فائدتها على المجتمع بأسره.
6 - أن يعمل على نصرتهم عندما تدعو الحاجة إلى الدفاع عن حقهم.
7 - أن يحترم الجميع ويعطي كل واحد منهم قدره فينزل كبيرهم بمنزلة والده، وصغيرهم بمنزلة ولده، وأوسطهم بمنزلة أخيه.
ولا ريب لو أن كل مسلم طبق هذه الحقوق على واقع حياته لكانوا يداً واحدة قوية تجاهد في سبيل الحق وتنتصر بإذن الله تعالى ولما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من التفرقة والتخاذل والخسران.
50 - حق أهل الذمة:
(وأما حق أهل الذمة فالحكم أن تقبل منهم ما قبل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده، وتكلهم إليه في ما طلبوا من أنفسهم وأجروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك في ما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله، والوفاء بعهده، وعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حائل فإنه بلغنا أنه قال: (من ظلم معاهداً كنت خصمه)، (فاتق الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله..).
فهذه خمسون حقاً محيطاً بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جل ثناؤه على ذلك ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين..).
لقد رعى الإسلام أهل الذمة، اليهود والنصارى، من الذين دخلوا في ذمة الإسلام فعاملهم بالحسنى كما عامل سائر المسلمين فمارسوا حرياتهم الفكرية والعملية والدينية وعاشوا بأمن ورخاء واستقرار ضمن شروط معينة ودخلوا في عهد مع الإسلام عندما أرادوا أن يبقوا على دينهم. وبموجب هذا العهد أصبحوا أهل ذمة تجري عليهم أحكام معينة. ومن واجباتهم:
1 - دفع الجزية ويرجع تقديرها للإمام وهي عبارة عن قدر معين من المال يدفعه اليهودي والنصراني عن نفسه في ظل حماية الإسلام له وهي تسقط عن النساء والصبيان والعاجزين والمجانين.
2 - أن لا يقوموا بأي عمل ينافي الأمان للدولة الإسلامية مثل إمداد المشركين أو العزم على حرب المسلمين لأن ذلك كان ينقض العهد ويخالفه.
3 - أن لا يؤذوا المسلمين بسرقة أموالهم والتعرض لنسائهم وإيواء المشركين والتجسس لهم فإن فعلوا شيئاً من ذلك كان نقضاً لعهدهم.
4 - أن لا يتظاهروا بالمنكرات كالزنى وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر علناً لأن المجتمع الإسلامي مجتمع نظيف يرفض المنكرات المحرمة ويعاقب عليها، فلا يسمح لأي إنسان أن يتعامل بها جهراً لأنها تؤدي إلى الاستهانة بالدين.
5 - أن يجري عليهم ما يجري على المسلمين.
فإذا التزم أهل الذمة بهذه الشروط كانوا في ذمة الله وذمة رسوله لا يجوز ظلمهم والتعدي عليهم وتجاوز أموالهم وأعراضهم. ويقضي بينهم وبين المسلمين بحكم الله.
من هنا حذر الإمام زين العابدين أن ينقض هذا العهد أو ينحرف عنه المسلمون فنبه أن يتقبل فيهم ما قننه الله وشرعه لهم من أحكام، والوفاء بحقوقهم والحكم فيهم بما أنزل الله وعدم الاعتداء عليهم بغير حق.
هذه هي رسالة