دراسة وتحليل قصيدة محمود درويش "أحبك أكثر"
بقلم الشاعر مصطفى شكري
نص القصيدة
أحبك أكثر ..
تكبّر.. تكبرّ!
فمهما يكن من جفاك
ستبقى، بعيني و لحمي، ملاك
و تبقى، كما شاء لي حبنا أن أراك
نسيمك عنبر
و أرضك سكر
و إني أحبك.. أكثر
يداك خمائل
و لكنني لا أغني
ككل البلابل
فإن السلاسل
تعلمني أن أقاتل
أقاتل.. أقاتل
لأني أحبك أكثر!
غنائي خناجر ورد
و صمتي طفولة رعد
و زنيقة من دماء
فؤادي،
و أنت الثرى و السماء
و قلبك أخضر..!
و جزر الهوى، فيك، مدّ
فكيف، إذن، لا أحبك أكثر
و أنت، كما شاء لي حبنا أن أراك:
نسيمك عنبر
و أرضك سكر
و قلبك أخضر..!
وإنّي طفل هواك
على حضنك الحلو
أنمو و أكبر !
قد يعتقد القارئ للوهلة الأولى لقراءته لعنوان القصيدة، أن هذا نص لنزار قباني، الذي عرف بمثل هذه العناوين في قصائده، لكن المتفحص المدقق حين يتوغل في عالم القصيدة لابد وأن يدرك أن أسلوبها مُغاير تماما لنصوص نزار. وأن هذه الوردة قد تفتحت في بستان شاعر متميز كمحمود درويش، طبعا هذا الكلام ليس انتقاضا أو انتقاصا لشاعر الرومانسية أو شاعر الحب كما يصف البعض، فنزار قباني شاعر له وزنه وجمالياته وأسلوبه الشعري المتفرد، وإنما هي إشارة لا غير.
موضوع القصيدة:
يظهر من العنوان "أحبك أكثر"، وهي إحدى قصائد ديوان "آخر الليل"، أن موضوعها عن الحب، وهو كذلك، لكنه حب من نوع مختلف، حب متفرد ومتجذر، غرسه هذا الشاعر الكبير في وجدان كل عربي، إنه "حب الأرض والوطن"، وهذا ما تؤكده لنا الأبيات التالية:
وأنت، كما شاء لي حبنا أن أراك:
نسيمك عنبر
وأرضك سكّر
وقلبك أخضر…!
وإنّي طفل هواك
على حضنك الحلو
أنمو وأكبر!
وهي من القصائد الرائعة في هذا الباب. طبعا نحن لا يجب أن نُسْقط كل قصيدة كتبها درويش عن الحب أو المرأة على القضية الفلسطينة أو الأرض المحتلة، كما فعل بعض النقاد، وقد عانى الشاعر من هذا كثيرا، ولكن الأمر يختلف في هذا النص.
هيكل القصيدة:
يمكننا وصف هيكل القصيدة بالجيد، وهذا ليس غريبا عن نصوص شاعر متمكن كدرويش، الذي تميز وعرف بقدرته الفنية والتعبيرية العالية.
وهو هيكل هرمي، منح فيه الشاعر الأشياء بُعْدها الرابع، حيث جرد الوطن/الأرض من الحيز المكاني الجامد، وهذه نقطة الارتكاز في هذه القصيدة الهرمية، فأصبح الوطن نسيما وعنبر، وأرضه سكر، وقلبه أخضر، وأصبح للوطن يد خمائل، وحضن يلجأ إليه الطفل وعلى يديه ينمو ويكبر، يقول الشاعر:
نسيمك عنبر
وأرضك سكّر
وإني أحبك… أكثر
يداك خمائل
***
نسيمك عنبر
وأرضك سكّر
وقلبك أخضر…!
وإنّي طفل هواك
على حضنك الحلو
أنمو وأكبر!
ومن الملاحظ أن القصيدة كأغلب القصائد الهرمية قد إنتهت بالسكون. "أنمو وأكبرْ!"
جماليات النص الشعري:
لا يمكننا الحديث عن شعر درويش بمعزل عن القضية الفلسطينية أو القضية السياسية ، غير أن ما يُحْسب لدرويش، ويميزه عن غيره من الشعراء، هو قدرته الكبيرة في تسخير قصيدته الشعرية وأبعدها الجمالية والفنية، لتصبح نصا كونيا لا مجرد قصيدة وطنية أو مناسباتية، ولعل القصيدة التي بين أيدينا "أحبك أكثر" من أدل القصائد على ذلك، فأبعادها الجمالية والفنية والدلالية، تجعل منها نصا متجددا في كل وقت وفي كل زمان، حيث تحس أن للقصيدة عالمها الخاص والمنفصل عن أي ارتباط مكاني أو زمني مؤقت، فنحن عندما نقرأ هذه القصيدة لا نجد بأنها تحيطنا بسياج ضيق ينتهي عند حدود الوطن الفلسطيني (المكان)، ولا يتوقف بنا عن قضية الإحتلال ومقاومته في فترة زمنية بعينها، بل نجد أن نص مفتوح الأفق على قيم عاطفية وجمالية خارج إطار موضوعه.
وهذا ما طبع قصائد درويش بطابع الكونية المتجددة، وهذا ما ميزه كشاعر، فهو "لا يغني ككل البلابل"، كما عبر عن ذلك في هذه القصيدة.
تضمنت القصيدة عدة صور وتشبيهات واستعارات لها أبعاد فنية رائعة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، (نسيمك عنبر )، (أرضك سكر)، (غنائي خناجر ورد)، (وصمتي طفولة رعد)، (وزنبقة من دماء فؤادي)، (قلبك أخضر)..
البنية الإيقاعية للقصيدة:
لا يختلف اثنان، حول الموسيقية المفرطة في جل القصائد الدرويشية، فهي مليئة بالموسيقى والإيقاع الشعري، وربما هذا سبب اختيار الكثير من المطربين قصائده لأغنياتهم، فدرويش يشبه مؤلف السوناتة الموسيقية، حيث يحس قارئ قصائده أنها سيمفونيات لا مجرد كلمات وأبيات.
ولا شك أن هذه الموسيقية تتجلى بوضوح في القصيدة التي بين أيدينا، حيث نلاحظ منذ البداية الانسجام الموسيقي التام، لا على مستوى التفعيلة أو الإيقاع الشعري.
• التفعيلة:
تكررت منذ بداية الشطر الأول للقصيدة تفعيلة أحد البحور الصافية وهو "بحر المتقارب"، وهي على هذا النحو:
تكبّر/ تكبر (فعولن فعولن)
فمهما/ يكن من /جفاك (فعولن فعولن فعول)
.....
وقد تكررت هذه التفعيلة في معظم أشطر وأبيات القصيدة.
وفي الحقيقة، أنا أهدي هذه القصيدة إلى أولئك الذين استهتروا واستهانوا بقصيدة الشعر الحر أو شعر التفعيلة، حتى أصبح كل من هب ودب يكتب نصا، لا يرتقي حتى للنصوص النثري، على أنه قصيدة شعر حر، معتقدا أنه بكتابته لكل جملة في سطر مع انتهاء كل سطر بنفس الحرف، قد كتب شعرا، والحقيقة أن أمثال هؤلاء قد حطوا من قيمة هذا الأسلوب الشعري المعاصر، وهذا أمر آسف له ويحزنني شخصيا.
• الإيقاع:
القصيدة غنية بالموسيقى ، حيث نلاحظ منذ البداية انسجاما كبيرا بين الحروف والمقاطع، فمثلا مطلع القصيدة ، هناك انسجام تام بين كلمتين متطابقتين (تكبر تكبر)، وقِس على ذلك أغلب أبيات القصيدة (كأحبك أكثر)، وقد ركز الشاعر على إيقاع خارجي تمثل في تكرار بعض الصوامت (كالراء، والكاف، واللام..) وبعض الصوائت ، سواء منها الطويلة (كالألف والياء) أو القصيرة (الفتحة، السكون، الكسرة).
كما أن هناك تكرار على مستوى العبارات والجمل: (أحبك أكثر)،(نسيمك عنبر، أرضك سكر،قلبك أخضر...).
تقويم:
لا يسعني في الأخير إلا أن أعترف بمقدرة هذا الشاعر الكبير (من خلال هذا النص وغيره)، عبر موضوع الذات وعلاقتها بالوطن، تمكنه من طرقه أبواب الانشغالات الكونية في أبسط تجلياتها، بفعل اعتماده على رؤية فلسفية وإنسانية تجاوزت الإطار الضيق لتعانق هموم الإنسان في العالم أجمع، إضافة إلا تحكمه الكبير بالمقومات الفنية للشعر الحر واللغة الشعرية.
أرجو أن أكون قد وفقت في تحليل بعض المظاهر الفنية والإبداعية لهذه القصيدة الرائعة
وأكرر شكري وامتناني للأخت "symaa" التي فتحت باب النقاش حول هذا النص الجميل.
آملا أن يكون هذا التحليل البسيط إضافة مفيدة لأعضاء المنتدى وزواره.