يجري النهران دجلة والفرات عبر سهل منبسط يحادد جبال إيران وتركيا الوعرة من الشرق والشمال والتي تسيل منها عدداً من الروافد التي تغذي النهرين وتزيدها ماءاً وجريانا. وقامت على هذه الأرض المنبسطة حضارات ودول عظيمة. وكان هذا السهل أيضاً ملتقاً لحضارات عظيمة أخرى حيث انصهرت فيه ثقافات الشرق والغرب. وقد انطلقت من أرض الرافدين الحضارة العربية الى كل من دولة الفرس في الشرق ودولة الترك في الشمال.
وترسخت العربية مع مرور الوقت في ثقافة الأمتين التركية والفارسية حتى هذا اليوم الذي أفل فيه بريق العربية نفسها. وأستطيع أن أميز الكثير من الكلمات العربية حينما أقرأ كتابة فارسية أو تركية. ونحن في العراق نتندر عن كثرة العربية في اللغة الفارسية ونحكي النكت من قبل تشكيل الأيرانيين لجنة لتخليص الفارسية من اللغة العربية أسموها “لجنتي تخليصي لغتي فارسي من لغتي عراب”.
لغرض النكتة لا أكثر
[color][font]
ومن جهتنا كعرب فإن هذا الأمر ليس بالسئ على الإطلاق. فالأمة الفارسية والأمة التركية أضافتا الكثير الى الحضارة الإسلامية وإلى اللغة العربية نفسها. ومن الجوانب التي تهمنا هنا هو ما أضافتا الى الخط العربي. فمن جهة فارس جاء
خط التعليق الجميل ومن جهة تركيا جاءت إضافات عديدة كخط الرقعة الذي اعتبره القمة في طريقة الكتابة اليدوية وكذلك ما طوره العثمانيون من خط الثلث ورفعوه الى مستوى عالي جداً من الجمال.
[/font][/color]
تحرر خط الثلث من خط السطر. لوحة من عمل الخطاط حامد الآمدي
[color][font]
وتعد الطُغراء إبتكاراً عثمانياً (تركياً) بامتياز. وقد نشأ شكل الطغراء الذي نعرفه اليوم من تواقيع السلاطين العثمانيين حيث كان شعاراً لمراسيمهم. وقد كان السلاطين يعهدون الى خطاط متخصص يسمى “النيشانجي” لرسم الخاتم السلطاني. وهناك الكثير من القصص حول أسباب تكوين الطغراء بهذا الشكل المميز. فمنهم من قال أنه يمثل شكل طائر السعد الأسطوري وتحكي روايات أخرى أن “البيضتان” (وهما الدائرتان الكبيرتان في شكل الطغراء) تمثلان البحرين الذين كانا تحت سيطرة السلطان العثماني وهما البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. أما الخطوط الثلاث المرتفعة فتمثل مع الزلفات النازلة عنها الأشرعة التي تهب مع الريح باتجاه الغرب وهي جهة توسع العثمانيين. وأنا شخصياً أرى في شكل الطغراء تمثيلاً لشكل السلطان مع عمامته في التدويرات وفي تفاصيل أخرى.
[/font][/color]
ومهما كان أصل شكل الطغراء فتكوينها البصري يحمل عناصر تصميمية جميلة كتوازن الشكل العام والإيقاع الناشئ عن تكرار الخطوط العمودية وفي دوران البيضتين على اليسار ثم خروج نهايتهما من جهة اليمين في حركة نشيطة، كذلك التباين في كثافة الكتابة بين أسفل الطغراء والفضاءات الرحيبة في جانبها الأيسر. وقد ذهب أتراك اليوم أكثر من ذلك في التحليل الجمالي للطغراء التي يعتزون بها كثيراً. بل إن الطغراء قد تأصّلت في الحياة والثقافة التركية ولم تستطع العلمانية اجتثاثها بالرغم من منشأ الطغراء العثماني. والى اليوم تجد الطغراء موضوعاً لتجارات وصناعات وفنون عديدة فيما هو مناسب وما هو غير مناسب.
تحليل جماليات الطغراء من قبل باحث تركي ووزن الطغراء على طريقة الخطّاطين بالنقط ومن الموقع التركي أيضاً نقلت الشكل التالي الذي يمثل توقيع السلطان عبدالحميد الثاني وقمت بوضع الأسماء العربية لأجزاء الطغراء مستعيناً بمقالة السيد ابراهيم بن عبدالرحمن الهدلق في مجلة الفيصل عدد 339، رمضان 1425 هـ.
أجزاء الطغراء وأسماؤها. وليس الأتراك وحدهم قد افتتنوا بالطغراء. فأنا أيضاً، ولست تركياً، قد افتتنت بجمالها حيث كانت تجربتي معها كتجربة المحب من النظرة الأولى. فكما ذكرت في تدوينة سابقة، فقد أحببت طغراء البسملة من عمل الخطاط مصطفى حليم منذ أن رأيتها في كتاب “بدائع الخط العربي” للمرحوم ناجي زين الدين المصرف. وقد استخدمتها في أعمالي تصريحاً، كما في تصميم كراس الصلاة، واستلهاماً كما في شعار تعريب برنامج أوتوكاد.استلهمت شعار تعريب أوتوكاد من الطغراء.
استلهمت شعار تعريب أوتوكاد من الطغراءوقد لا أكون المعجب الوحيد للطغراء. فقد استخدمت قناة الجزيرة شئ يشبه الطغراء شعاراً لها وكذلك قناة دولة البحرين. ومن المفيد مقارنة التصميمين حيث أن فيهما بعض أوجه الشبة بالطغراء مع ما فيهما من أوجه الإختلاف. فالتدويرات في شعار قناة الجزيرة تحضر الطغراء الى الذهن دون عناء وكذلك التشبيك في شعار قناة البحرين. وفي ما عدا هذا فيحمل كل من الشعارين مظهراً تصميمياً جديداً مما يشير الى الإمكانيات المفتوحة لتطوير فكرة الطغراء ضمن تصاميم جديدة ومبتكرة. وهدية هذا العدد ستكون بطبيعة الحال طغراء. وقد أعددت رسمة خطيّة للطغراء(vector) ليتمكن القرّاء من استخدامها بأي حجم دون أن يكون ذلك على حساب النوعية. وكمثال على الإمكانيات المتعددة لاستخدامها فقد أعددت صفحة طباعية في برنامج إنديزاين InDesign تحتوي على الطغراء في مواضع مختلفة. وقد حاولت في تصميم الصفحة أظهار الجانب الجمالي من استخدام الحرف العربي المخطوط مع الحرف العربي الطباعي. وهذا في الحقيقة مقدمة للموضوع حيث أنوي أفرد تدوينة أو أكثر حول هذا الموضوع بإذن الله.