مَنْ هُما "وْلدْ الناس" و"بْنتْ الناس" في مِخْيال الشباب المغربي؟
المُصْطلحان الأكثرُ شيوعا، وتداوُلاً، على ألسنة الشباب المغربي، الراغب في الزواج، ذكورا وإناثا، هما "ولد الناس"، و"بْنت الناس"؛ الفتيات يبْحثن عن "ولد الناس"، والشبّان يبحثون عن "بْنت الناس"، وإن كان الكثيرون يقولون إنّهما على وشك الانقراض، أو هُمُ انقرضوا.
فَمَن هو "ولد الناس"، ومن هي "بنت الناس"، في مخيال الشباب المغربي؟ وما هي المعايير التي يتوجّب أن تتوفر في الإنسان، ليرتقي إلى هذه الدرجة؟ في السطور الآتية محاولة للجواب، على لسان شبان وشابات، وجواب علميّ، يقدّمه الباحث في علم النفس الاجتماعي، مصطفى شكدالي...
الدِّينُ والتربيّة الصالحة.. المعيارُ الأساس
"ولْد الناس"، في رأي مريم، هو الشخص الذي يتمتع بسيرة طيبة وحسن الأخلاق، من مُنطلق حفاظه على صلته بالله، ومُتّبعا سُنّةَ الرسول (ص)، والشيء ذاته بالنسبة للفتاة، غيرَ أن مريم تضيف إلى هذه الأخيرة شرطا آخر، وهو أن تحافظ على حَيائها، وتحرص على ارتداء زيّ محتشم.
وتوضح مريم مسألة، ترى أنّها مهمّة، وهي أنّ جميعَ مَنْ على الأرض هُم في نهاية المطاف "اولاد الناس" و "بنات الناس"، وإنْ كانت لا تتوفّر فيهم الشروط التي أشارت إليها، وتتساءل بسخرية: "أسأل من يقول عكس ذلك: هل صادفْتَ يوما ما أبناء الشياطين على الأرض؟!".
في السياق نفسه ترفض زينة أنْ يتمّ التفريق بين الناس، واعتماد مِثْل هذه المصطلحات قائلة "أنا أرفض استعمال مصطلحيْ "بنت الناس" و "ولد الناس"، وحَصْرهما على فئة دون أخرى"، وتضيف "نحن جميعا أولاد ناس وبنات ناس، ومن الطبيعي أن يكون بيننا اختلاف من شخص إلى آخر".
عبد الله، الطالب الجامعي، عرّف "ولد الناس"، و "بنت الناس"، تعريفا يسير في منحى التعريف الذي قدمته مريم، قائلا "نقصد بأولاد الناس وبنات الناس، كلّ من تربّى تربية قِوامها الأصالة"، مضيفا أنّ "اولاد الناس" و "بنات الناس"، ما زال منهم الكثير، موجّها اللوم للحداثيين على "تشويههم لصورة النساء".
عدد من الشباب المغربي، من الذكور، عندما يفكّرون في الزواج، يذهب تفكيرهم إلى أنّ "بْنت الناس"، مقترنة بالبادية، في تكريس لرأي عبد الله، القائل إنّ "الحداثيين شوّهوا المرأة"؛ من هؤلاء سعيد؛ الأخير يرى أنّ من يبحث عن فتاة صالحة للزواج، عليه أن يبحث عنها في البادية، أما بنات المدينة، في رأيه، فيغمرهنّ الطمع، ويفكّرن في المكانة الاجتماعية للزوج، قبل أيّ شيء آخر".
الدكتور مصطفى شكدالي، الباحث في علم النفس الاجتماعي، يشرح مصطلحيْ "ولد الناس" و "بنت الناس" من زاوية علميّة، ويقول، "اللجوء إلى هذين المصطلحين يندرج في إطار المُتَمنّيات، ويضيف أنّ المصطلحين فيهما إحالة على فئة اجتماعية معيّنة، فَبنت الناس، يشرح شكدالي، تعني في المخيال الشعبي، بنت الحَسَب والنسب وبنت الأصل، "كما لوْ أنّ هناك "ولد الشارع" و "بْنت الشارع".
ويخلص شكدالي، إلى أنّ البحث عن "ولد الناس"، أو "بنت الناس"، يحمل في طيّاته مفارقة عجيبة، وهي أنّ هذين المصطلحين جاءا في نسق اجتماعيّ معيّن، يتسم بالبساطة، لكن، وعلى الرّغم من التطوّر الذي عرفه المجتمع، والتغيير الذي طال بِنْياته، إلّا أنّ هذين المصطلحين ظلا حاضرين، عل مستوى التمثّلات والمتمنيات، "وكأنّ الناس تهربُ مِمّا هو موجود في الواقع، ويبحثون عن شيء في المتخيّل".
أمّا زينة، الموظفة، فلديْها تفسير آخر، وهو أنّ المقصود بمصطلحيْ "ولْد الناس" و "بنت الناس"، لدى كل شخص، هو الآخر، الذي يفْهمه، ويستطيع أن يكون على وفاقٍ معه، ومع أفكاره، لذلك، تشرح زينة، فعندما نختلف مع الآخر، أو نجده غير مسايرٍ لنا، ولأفكارنا، نقول إنّه ليس ولد الناس، أو بنت الناس؛ الخلاصة التي خُلُصت إليها زينة، هي أنّ هذين المصطلحين في حدّ ذاتهما مصطلحان خاطئان.
ما ذهبتْ إليه زينة، يُزكّيه مصطفى شكدالي بالقول "أحيانا، يكون مثل هذا النوع من المصطلحات أدوات، يتمّ اللجوء إليها كاستراتيجية للتعامل مع الآخر، من أجل كسْبِ ودّه، فالشابّ قد يقول للفتاة في البداية إنها بنت الناس، أو بنت الأصل، وعندما يحدث أدنى خلاف بينهما، يستغني عن الوصف الأول، ويلجأ إلى الوصف المضادّ، من قبيل "بنت الشارع"؛ شكدالي يخلص في تحليله، إلى أنّ هذه المصطلحات قد تكون مجرّد خطّة للأفراد لتلبية رغبات معيّنة.
الزمن وحده الكفيل بكشف "معدن الإنسان"
يُقال، في المثل الدارج، إنّ "الناسَ معادنُ"، فكيف للإنسان أن يعرف "معْدِنَ" رفيق دربه قبل ربْط وثاق الزواج؟ يقول الحسين، الشابّ الموظف، "المقصود بـ"ولد الناس"، هو الشاب الخلوق، ذو السّمعة الطيّبة، غيرَ أنّه يستحيل معرفة حقيقة الإنسان إلَّا بعد فترة عِشْرَة طويلة".
"لا يمكن الحكم على الإنسان من أوّل لقاء، أو بعد أسبوع من العشرة، بل يلزم أن تعاشره لما يكفي من الوقت حتى تعرفه معرفة جيدّة"، يقول الحسين، ويمضي قائلا "خصوصا وأننا نعيش في عصر كثُرَ فيه النفاق والكذب، وصار الجميع يرتدي أقنعة، لذلك من الصعب أن تتعرّف على حقيقة الإنسان، في زمن قصير".
الكثير من الشابّات يريْنَ أنّ أوّل ما يجب أن يتحلّى به الرجل الذي سيرتبطن به هو الوازع الدّيني، "لأنّ من يخاف اللهَ ستكون أخلاقه بالضرورة حميدة"، تقول رقيّة، وتضيف "أوّل شرْط أريده أن يتوفّر في الشخص الذي سيتقدّم لخطبتي هو أن يكون متديّنا، وتردف الطالبة الجامعية في كلية الحقوق بالرباط، أنّ الرجل في الآن ذاته، "يجب أن يكون منفتحا، لكن في حدود".
عاملٌ آخرُ، من العوامل التي يتمنّى عدد من الفتيات أن يتوفّر في "فارس أحلامهنّ"، هو أن يتمتّع بثقافة واسعة؛ تقول نوال، الشابة الحاصلة على الإجازة في الحقوق، "أوّل صفة يجب أن يتحلّى بها "ولد الناس"، أن يتمتّع بمستوى ثقافي، ويكون متديّنا، ومنفتحا، في حدود". غيْر أنّ عامل الثقافة والدّين لوحدهما، قد لا يكفيان، ليرتقي الشابّ، في نظر الفتاة، إلى مرتبة "فارس الأحلام".
تعود نوال ذات الثلاثة وعشرين ربيعا، وتؤكّد أنّ هناك شروطا أخرى يجب أن تتوفّر في الشاب الذي سيتقدّم لطلب يدها، ومن بينها "أن يحبّني ويخافَ عليّ مثلما يخاف على أخته"، ثمّ يأتي عامل آخر، وهو أن يكون ميسورَ الحال؛ بخصوص هذه النقطة، تتحدّث نوال بصراحة، وتقول "من الضروري أن يكون الشخص الذي سيتزوّج بي ميسور الحال، لأنّ الحبّ وحده لا يكفي لبناء أسرة مستقرّة، خصوصا في الزمن الراهن".
وإذا كانت عوامل الدّين والثقافة ويُسْرُ الحال من الأمور التي يجب أن تتوفّر في "ولد الناس"، والتي تضمّنتها الآراء التي استقتها هسبريس، فإنّ هذه الآراء كانت شبه خالية من التطرّق إلى عامل الجمال، أو جاء في المرتبة الأخيرة على لائحة الشروط؛ تقول نوال "فيما يخصّ الحُسْن، أريده أن يكون مقبول الشكل، لا أكثر".
هذه التصوّرات التي قدمها الشبّان والشابات الذين استقت هسبريس آراءَهم، يقول مصطفى شكدالي، تبقى تمثّلات فيها نوع من النمطيّة، "فلو طلبنا من شاب أن يصف لنا مواصفات "بنت الناس"، وماذا يعني بهذا المصطلح، سيقدّم لنا تصورات تنطبق على أمنياته الخاصّة به شخصيّا، وعند طرح السؤال نفسه على شخص آخر، سيعطينا تصوّرا آخر مختلفا"، يقول شكدالي، ويضيف "مصطلحَا "ولد الناس" و "بنت الناس"، يُنطقان بالأسلوب نفسه، ولكنهما يحملان مضامين حسب تصوّرات كلّ شخص".
البحث عن "ولد الناس"، أو "بنت الناس"، قد يكشف عن شكل من أشكال "السيكيزفرينيا" التي تطبع المجتمع المغربي، فعندما يبحث الشاب، مثلا، "عن "بنت الناس"، يقول شكدالي، فكأنّما يبحث عن أنْ يضفي على نفسه صفة "ولد الناس"، ويضيف "الشاب يمكن أن يفعل كل شيء في حياته، وعندما يفكّر في الزواج يبحث عن "بنت الناس"، ليتّخذها مظلّة لإضفاء الشرعية على أنّه "ولد الناس"، وهذا سلوك ناجم عن سيادة العقلية الذكوريّة".
"باقينْ وِلاد الناس وباقين بْنات الناس"
النقطة التي أجمعت عليها آراء الشابات والشبان التي استقيناها، هي أنّه، وعلى الرّغم من أن الكثيرين يقولون إنّه "ما بقاوش ولادْ الناس وبنات الناس"، هو أنّ "الخِيرْ مازال مُوجودْ"؛ رشيدة، الطالبة في السنة الأولى، شعبة الاقتصاد، ترى أنّ من يقول بانقراض "ولاد الناس" و "بنات الناس"، قد يكون كلامه من منطلق تجربة عاشها في حياته، آلتْ إلى الفشل، وخلّفت في نفسه جُرحا، جعله يرى الجميع على شاكلة الشخص الذي جرحَ مشاعره أو خَذَله.
في المقابل، يعْزو الحسين، سبب "كُفْر" البعض بوجود "ولاد الناس" و "بنات الناس"، إلى التغيّر الكبير الذي طرأ على المجتمع المغربي، وتفسّخ القيم والأخلاق، إضافة إلى طريقة عيْش الأسر، وطريقة تربيتها لأبنائها وبناتها. يقول الحسين "الوالدين ما بقاتش عندهم رقابة على أبنائهم وبناتهم، وما بقاوش كايدوزو معاهم وقت كافي، وهو ما يدفع الأبناء إلى التأثّر بما يرونه في الشارع العامّ، ومن ثمّ تتفشّى القيم الغريبة والدّخيلة في المجتمع".
عامل آخر، يرى الحسين أنّه يؤدّي إلى الانحلال والتفسّخ، يتمثّل في الفقر، ويقول "الفقر أيضا يؤدّي إلى انحلال وتفسّخ الأخلاق، لأنّه يدفع الإنسان إلى القيام بأيّ شيء مقابل الحصول على المال؛ أمّا سعيد، فيرى أنّ القول بانقراض "أولاد الناس"، و "بنات الناس"، إنّما هو نابع من الصورة النمطية التي أصبحت تُسوّق عن الشباب الحالي، مضيفا أنّ تصنيف الناس، كلٌّ ينظر إليه من منظوره الخاصّ".
مريم بدورها ترى أنّ الفقرَ يدفع ببعض الناس إلى الانحلال، "لانتفاء الصبّر في نفوسهم، على الابتلاء"، وهو ما تُرجعه إلى "عدم الإيمان بالله"؛ وإضافة إلى الفقر، تُورِد مريم عاملا آخر، وهو عدم ثقة الناس في بعضهم، ثمّ عامل وسائط الاتصال الحديثة، التي تجعل الناس يطّلعون على ما يجري، ومن ذلك مثلا ترقيع البكارة، وهو ما يؤدّي إلى فقدان الثقة، سواء من طرف الشبّان أو الشابّات في بعضهم البعض.
في مقابل آراء الشابّات والشبّان أعلاه، يسترجع إدريس، المتقاعد، ذكْريات السنوات الغابرة، يوم كانت "النيّة" أساسا للعلاقات بين الناس؛ "نَاسْ زمان واللي عايشناهم كان زواجهم بالنية"، يقول إدريس، ويضيف "يومئذ لم يكن الفتى أو الفتاة يريان بعضهما، ولا يعرفان إلا ما سمعا من الأقارب؛ كان الرجل يبعث أمه وأخته وبعض جارات الفتاة لخطبة من يريد الزواج بها ، وبين مزدوجتين "يْطلب زهرو فْرمانتو من الداخل وكيفاش تخرج".
يقول إدريس إنّ هذا الوضع استمرّ إلى حدود أواخر الستينيات، حينها بدأت التقاليد والعادات تتغير وتنحو منْحًى آخر، "خصوصا بعد غزو السينما والاختلاط الذي شابَ المدارس والثانويات، بحيث صار الزواج يُبنى على نظرة فابتسامة فلقاء وتبادل فموعد لخطبة فزواج أو جفاء"، على حدّ تعبيره.
بالنسبة لجيلي ولمن عاصرته وعاصرني، يقول إدريس، كان اختيار الفتاة للزواج أغلبه من طرف الوالدين، فتذهب الأم والأخت أو الخالة معزّزة بصورة الفتاة رفقة الابن "العريس المرتقب"، لخطبة الفتاة والاتفاق الأوّلي على مبلغ الصداق، وموعد التوثيق (ضريب الكاغيط)، وهو مايسمي نهار لملاك أو "التمليك".
ويسترسل إدريس، "بعده تصبح الفتاة، شرعا، متزوجة "وديال مولاها"، وخا بلا عرس، وقتاش مّا بْغى يرافقها مكاينش اللي يگلعها ليه"، يومها، لم يكن مبلغ الصداق يتعدى 5000 درهم كأعلى تقدير، يشرح إدريس، الذي تزوّج بـ 1500.00، كان ذلك سنة 1978، وكان الشرط الوحيد الذي أضافته عائلة الفتاة هو: "تهلا فيها أوليدي الله يْرضي عليكوم بجوج"، يقول إدريس بكثير من الحنين إلى الماضي.
وبين الماضي، والحاضر، ثمّة قِيَم وأعراف وتقاليد لا تندثر، مهما مرَّ من عقود وقرون، ومهما ارتفعت وتيرة حركيّة المجتمع، أو تندثر نسبيّا، لكنها تظلّ حاضرة في عمق الوِجْدان، من هنا يمكن أن نفهم لماذا يستمرّ الشباب، ذكورا وإناثا، في البحث عن "ولد الناس"، و "بنت الناس"، رغم التطوّر الكبير، والانفتاح الذي عرفه المجتمع المغربي، خلال العقدين الماضيين.
يقول الباحث في علم النفس الاجتماعي، مصطفي شكدالي، "الكثيرون يقولون، مثلا، إنّ الاهتمام بعذرية الفتاة قبل زواجها، وما كان يصاحبها من طقوس في ما يعرف بـ"ليلة الدخلة" قد اختفت، ولكنّها في العمق ما تزال حاضرة بقوّة، في تصوّر الشباب"، ويستنتج شكدالي أنّ ادّعاء الشباب بعدم الاكتراث بالعذرية قد يكون استراتيجية لتلبية الرغبة الجنسيّة.
كيف؟ يجيب شكدالي: "الشاب يقول للفتاة، أنا لا أهتمّ العذرية، أو "هادشي ما بقاش موضة"، لكنه عندما يريد أن يتزوّج، يبحث عن "بنت الناس"، العذراء، التي لم يسبق لها أن ربطت علاقة مع رجل آخر، وأن يكون هو الأول في حياتها"، شكدالي يرى أنّ هذا المصطلح يبقى فضفاضا، ويقول "السؤال الذي يجب أن يُطرح على الشاب في هذه الحالة هو: "هل أنت ولد الناس بهذا المنطق"، ويجيب: "هنا سيجد الشابّ نفسه في تناقض مع ذاته، لأنّه ربما يبحث عن شيء ومواصفات لا تتوفّر فيه هو".