العلماء هم أدمغة الأمة المفكرة وعلى عاتقهم تزدهر الأمم وتنهض ·· لكن الأدمغة العربية التي كانت يوما ما مصدر قوة ونهضة العالم الإسلامي في عصور صدر الإسلام والأموي والعباسي وعصور الدويلات المستقلة راحت الآن تهاجر إلى بلاد الغرب التي تحسن استغلالها···
عاش العلماء العرب في تلك العصور المزدهرة علمياً في جو من التحرر، فترك لهم الحكام حرية البحث العلمي، واسبغوا عليهم العطاء، وأنشأوا لهم المدارس والمراصد والبيمارستانات، والمكتبات المليئة بالمراجع والمخطوطات، حتى إن بعض الخلفاء كان يزن قدر ما يترجمه العالم من أوراق الكتب الأجنبية بالذهب ·· في تلك العصور ساد العرب العالم وأصبحت العواصم العربية والإسلامية مقصدا لطلاب العلم من كل صوب·· وتربع العرب على عرش العلم دهراً طويلاً، في وقت كانت فيه أوروبا تعيش في ظلام وعبودية ·· تطارد العلماء وتحرق مؤلفاتهم بل تعدمهم عقاباً لآرائهم أو مؤلفاتهم، فهرب كثير منهم ليعيش في كنف العرب، الأكثر تحرراً، وتوقيراً للعلم والعلماء·· وعندما أهمل العرب العلم والعلماء ونهضت أوروبا من غفلتها في عصر النهضة، انقلب السحر على الساحر، وباتت البلاد العربية بيئة طاردة للأدمغة المفكرة، التي وجدت في الغرب الأوروبي والأميركي مناخاً علمياً مناسباً، وجاذباً لهذه الأدمغة المهاجرة··
بيئات طاردة
وتشير الإحصاءات الى ارتفاع نسبة هجرة الأدمغة العربية للغرب، فطبقا لما أعلنته وزارة الهجرة المصرية أن اجمالي عدد العلماء المهاجرين من مصر وحدها بلغ >465< ألف عالم منهم >200< ألف هاجروا إلى أميركا و >60< ألف هاجروا إلى كندا و >50< ألف إلى استراليا و >155< ألف إلى دول أوروبا ·· وتشير تلك الإحصاءات إلى أن معظم المهاجرين من خريجي الجامعات وعلماء الطبيعة والأطباء والمهندسين ومنذ بداية الستينيات من القرن الماضي هاجر إلى الغرب أكثر من 61 ألف طبيب مصري و 100 ألف مهندس مصري و 122 ألف اختصاصي فني· ومن سوريا هاجر 56% من خريجي الجامعات ومن لبنان 29% من خريجي الجامعات· ومن تونس 12.5% من علماء الطبيعة··
وفي دراسة لمركز الخليج للدراسات الاستراتيجية تبين منها أن المجتمعات العربية باتت بيئات طاردة للكفاءات العلمية العربية· الأمر الذي أدى إلى استفحال ظاهرة هجرة الأدمغة العربية للغرب·
وذكرت تلك الدراسة أن 45% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، وأن 34% من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة بالفعل إلى الدول الثلاث (أميركا - بريطانيا - كندا) وكشفت الدراسة عن أن إجمالي الخسائر التي تسببها هجرة الأدمغة العربية لا تقل عن >200< مليار دولار في حين تستفيد الدول الغربية الرأسمالية من هجرة هذه الأدمغة التي تحمل معها كفاءات وخبرات علمية تحسن استغلالها ·· والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه المقدمة الطويلة ·· لماذا تهاجر الأدمغة العربية إلى الغرب؟ وكيف نوقف هجرتها، ونحسن استغلالها في بلادنا العربية؟
د· سهير >عبدالعزيز محمد<، عميدة كلية الدراسات الإنسانية ومديرة مركز الأسرة والتنمية في جامعة الأزهر ترجع هجرة الأدمغة إلى الغرب لتوافر المناخ العلمي السليم هناك متمثلا في مراكز البحث العلمي الممولة تمويلا سخيا، والذي يأتي من مصادر عدة منها المصانع وشركات الأدوية وشركات البرمجيات وغيرها··
ضرورة التمويل البحثي
وهذه الدول الجاذبة لهجرة الأدمغة العربية تخصص نسبة تترواح من 6-8% من موازنتها للبحث العلمي في حين يقل ما تخصصه أي دولة عربية عن 2% من موازنتها للبحث العلمي·· وتشير د· >سهير عبدالعزيز< إلى أن الأدمغة العربية المهاجرة التي حققت نجاحات واسعة في بلاد الغرب يجذبها الحنين للعودة لتراب الوطن الأم، فهي تعيش بعقلها في الخارج، ويظل قلبها مشدودا إلى الوطن، ومن السهل جداً جذب هذه الأدمغة لتعود إلى وطنها والاستفادة من خبراتها ··· لكن للأسف الشديد المناخ العلمي في الدول العربية ليس مهيأ لجذب هذه الأدمغة المهاجرة في ظل الروتين وقلة الموازنات المخصصة للبحث العلمي وعدم وجود خطة استراتيجية نستطيع من خلالها استغلال هذه الأدمغة المفكرة وتشدد د· >عبدالعزيز< على أهمية تمويل المراكز العلمية في البلاد العربية، واحترام البحث العلمي، لأن المراكز البحثية تقدمت في العالم كله، وتضرب مثلاً بالهند التي تحقق دخلاً يفوق >12< مليار دولار سنويا من البرمجيات بعد أن طبقت تجربة ناجحة تمكنت خلالها من تعليم الأطفال والنساء استخدام الكمبيوتر بعد أن نشرته في الشوارع والحارات والبيوت والمدارس كما أنها أي (الهند) قامت بجذب العقول المهاجرة إلى الوطن الأم بعد أن هيأت لها المناخ العلمي السليم··
وترى الدكتورة >عبدالعزيز< أن العرب أصبحوا مستهلكي تكنولوجيا لا منتجين لها، وذلك مؤشر يعطي إحساساً بالدونية لدى المستهلك، ويعد ذلك مؤشراً خطيراً على انتماء وولاء المواطن العربي·· وللخروج من هذا النفق المظلم تشدد الدكتورة >عبدالعزيز< على ضرورة تخصيص موازنة لائقة بالبحث العلمي في البلاد العربية وأن نلحق مراكز بحثية لائقه بأقسام الدراسات العليا في الجامعات العربية تمول من شركات يهمها البحث العلمي لتوفر على هذه الشركات استيراد قطع الغيار وما يلزمها من الخارج، مثل شركات تجميع السيارات إضافة إلى تبني الجامعات العربية وضع خطة علمية مدروسة لتمويل الاكتشافات والاختراعات فقد آن الآوان ليصبح العرب منتجين لا مجمعين، أو مجرد أصحاب توكيلات، فاتفاقية >الجات< لن تسمح لنا بحكم نصوصها بهذين النوعين لأن حق الانتفاع سيكون من نصيبها لسنوات طويلة، وعلى الحكومات العربية تقديم تسهيلات حكومية للشركات لتشجيعها على جذب رؤوس الأموال لتوطين الصناعات المدعومة التي تتمثل هذه التسهيلات في توافر الأمان والمناخ الاستثماري الجاذب إلى جانب استثمار أموال الوقف في البحث العلمي وضمان حق الانتفاع بالابتكارات وأن تكون الاستثمارات العربية في الداخل، وفي ظل اتفاقيات تضمن للمستثمر حقوقه كاملة بعيدا عن التقلبات السياسية·
مناخ علمي مناسب
المفكر، >محمود مهدي< نائب رئيس تحرير جريدة الأهرام المصرية يقول: من حق الدول العربية ان تستفيد من أبنائها النابغين في مختلف العلوم، وبخاصة علوم الحاسبات وتكنولوجيا المعلومات والطب والهندسة وغيرها· وذلك بتوافر المناخ العلمي المناسب الذي يجعلهم يواصلون تفوقهم وابتكاراتهم ··· وإذا ما وفرنا لهم هذا المناخ يصبح من الواجب على هؤلاء الأبناء العودة الى وطنهم الأم فهو أولى بهم ·· ولا نطالبهم بالعودة قبل أن نوفر لهم المناخ العلمي المناسب والظروف الملائمة لوجودهم··
تقنين الهجرة
وتشير د· >زينب عبدالعزيز< استاذ الحضارة >سابقاً< في جامعة الأزهر إلى ضرورة تقنين هجرة الأدمغة العربية للغرب، وتهيئة المناخ العلمي المناسب الذي يشجعها على حرية البحث العلمي والابتكار في بلدانها التي هي في أمِّس الحاجة لاستثمار خبراتها العلمية على أن توفر هذه الدول العربية الإمكانات المادية والثقافية والسياسية للتفرغ للبحث العلمي·
أسباب عديدة
ويرجع د· >هاشم رشوان< وكيل كلية الطب جامعة قناة السويس، أسباب هجرة الأدمغة العربية إلى الغرب الى أسباب عديدة أهمها: تردي الحال الاقتصادية التي تساعد على طرد الأدمغة العربية إلى بلدان اكثر اهتماما توفر كل الإمكانات المشجعة للبحث والابتكار والبقاء هناك·· إضافة إلى الظروف السياسية التي تمر بها معظم البلدان العربية، وهي ظروف قهرية لا تشجع على الإبداع العلمي الذي يحتاج إلى مناخ جيد من الحرية والانطلاق، أما الغرب فإنه يوفر كل المغريات للأدمغة المهاجرة التي تتراوح بين حرية التعبير وحرية البحث العلمي الجاد والعائد المادي المجزي، وخصوصاً لأصحاب التخصصات النادرة·· وهناك كثير من الرموز العربية التي حققت نجاحات واسعة في مجال البحث العلمي في الغرب في مجالات مختلفة مثل عالم الفضاء الشهير د· >فاروق الباز - ود· احمد زويل< الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء، وهذا ما حفَّز عدداً كبيراً من العقول العربية للهجرة إلى العرب أملا في الحصول على فرصة مناسبة·
حلول مناسبة
وحتى نجذب هذه العقول العربية المهاجرة للبقاء في الوطن الأم واستثمار طاقتها العلمية والإبداعية· يشير د· >هاشم رشوان< الى ضرورة تغيير المناخ السياسي والثقافي والاقتصادي في البلاد العربية بما يحقق الظروف المناسبة لجذب هذه العقول التي تذخر بها المجتمعات العربية مع ضرورة استنهاض همم الشركات الصناعية والمؤسسات المالية لدعم البحث العلمي، بما يحقق سياستها الإنتاجية كبديل للمساعدات الأجنبية في المجالات العلمية التي هي في معظمها موجهة لصالح الجهات المانحة إضافة لأهمية خلق نوع من التوحد البحثي وإنشاء أكاديمية عربية للبحث العلمي من خلال جامعة الدول العربية·