الرشوة مرض مزمن في المغرب
تمثل الرشوة واحدة من أسوإ الظواهر المتفشية في
المجتمع المغربي فهي وإن كانت موضوع استهجان من المواطنين، و فعاليات المجتمع المدني
والحقل السياسي والإعلامي وكذا المسؤولين الحكوميين، فإنها صارت ثقافة عرفا،
فيه أحيانا الكثير من التواطؤ الصامت بين الراشي والمرتشي، خاصة عندما يتعلق الأمر
برشوة صغيرة، في إدارة ما أو في طريق ما أو في غيرها، حيث إن بعض المواطنين يدفعون
حتى دون أن يطلب منهم ذلك، لأنهم يعتبرون الأمر عاديا وضروريا في نفس الوقت أكثر من
ذلك يمكن أن نجد مواطنين فرحين لأن أقرباء لهم حظوا، مثلا، برعاية طبية جيدة في
مستشفى عمومي ما مقابل 20 أو 50 درهم فقط أو 100 درهم، بل هناك من يعتقد أنه إذا لم
يدفع الرشوة فإن أغراضه ومصالحه تضيع، في الوقت
الذي تجده »يتَشطَّرْ« لدفع مستحقات.
إن تحويل الرشوة إلى ممارسة عادية، وتكريسها كثقافة
وكعرف اجتماعي هو مكمن خطورتها. لماذا؟ لأن من شأن ذلك توفير مناخ ملائم
لاستفحالها، وتحولها إلى منظومة حقيقية لها بنياتها
ومؤسساتها الخفية و.. سماسرتها الذين يسهرون على تنفيذ الصفقات، وعقد وساطات مقابل
رشوة أيضا.
وإذا كانت الرشوة الصغيرة تعمل على تعطيل مصالح
المواطنين، وتساعد بعضهم على هضم حقوق البعض الآخر وتحرم خزينة الدولة في مجالات معينة
من مداخيل مستحقة، فإن الرشوة التي يتم التعامل بها على مستويات
أكبر تبقى أشد خطراً، لأنها تساهم في تعميق التفاوت بين مختلف فئات المجتمع،
وتنمي أحزمة الفقر، وترسخ البطالة، وتعمل أيضا على تقويض بناء المجتمع على أسس صحيحة
وقوية، لاتعشش فيه الأحقاد الطبقية التي يذكيها الغبن، الذي يشعر به المواطنون
المقهورون والتعسف الذي يتعرضون له، بحرمانهم من الوصول الى مصالحهم والى الخدمات
الحيوية التي تخول لهم التمتع بحقوقهم.
تؤثر الرشوة الكبيرة، خاصة في الصفقات
العمومية،وملفات الضرائب، التي مازال مسكوتا عنها، على عدم مساواة المواطنين في الحقوق
والواجبات، وفي دفع مستحقات لخزينة الدولة، كما تؤثر على جودة تنفيذ المشاريع موضوع
هذه الصفقات، فتنتهي الأشغال والأوراش لتبدأ مرحلة الترقيعات بعد قليل وقت من انجازها
وهذا عاشه المغرب ويعيشه بل يتعايش معه وكأنه قدر محتوم لذلك نجد المغرب في
رتب دنيا بين الدول في تصنيف المنظمات الدولية المهتمة لمحاربة هذه الظاهرة، منها
احتلاله للرتبة 78 في تقرير سنة 2005 لمنظمة الشفافية الدولية، وتصنيفه في تقرير
2006 حول الرشوة في القطاع الصحي ضمن الدول التي تعرف
انتشارا للظاهرة، وقدرت في تقريرها الذي أنجزته ترانسبارونسي المغرب معدل الرشوة في هذا القطاع 140درهم.
ويعزى هذا التراجع في نظر فعاليات المجتمع
المدني الى استمرار سياسة اللاعقاب وغياب المحاسبة، وصعوبة الوصول إلى المعلومات التي تمكن
من الكشف عن حالات الرشوة، وعدم توفير الحماية للمبلغ أو الشاهد
في نوازل الارتشاء، حيث يخشى إذا كان متعهدا في الصفقات العمومية أن يتم حرمانه
مستقبلا من الفوز بالمشاريع المبرمجة. وترى ترنسبارونسي المغرب أن عدم مصادقة
المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الرشوة بالرغم من انضمامه إليها يساهم بدوره
في استفحال الظاهرة.
وتهدف هذه الاتفاقية بالأساس تحقيق
مجموعة من الأهداف تتمحور حول تقوية آليات الوقاية ومحاربة الرشوة وتيسير ومساندة التعاون الدولي في
هذا المجال والسهر على تدعيم النزاهة في تدبير الأموال العامة. إضافة إلى ذلك
الانزلاق تحت ضغط الاغراءات المادية.
وإذا أراد المغرب ان يحقق هذه
الأهداف فعليه أن يفعّل ترسانته القانونية المتوفرة، ويشدد إجراءات المراقبة
بضبط الممارسات الفاسدة، وبدون ذلك فإن الرشوة لابد أن تستفحل، لتقوض بالتالي أسس
البناء الديموقراطي الذي انخرط فيه المغرب بكل فعالياته، وتضرب عرض الحائط بدولة
القانون، وتساهم في خرق حقوق الانسان، الأساسية، وتفكيك المجتمع، اضافة إلى تعميق
الفوارق الاجتماعية.
من أجل خطة وطنية لمحاربة الرشوة
من أجل إثبات حسن نواياها عملت
الحكومة على إنشاء هيئة لمحاربة الرشوة. وهو أمر اعتُبِر في حينه أمرا مجحفاً
إلى حد ما، لأنة لم لم يخضع لنقاش عمومي تشارك فيه جميع الفعاليات المهتمة
بالموضوع،لأن محاربة الرشوة تقتضي احترام جملة من المعايير
والضوابط الدولية، خاصة الاتفاقية الدولية لمحاربة الرشوة الصادرة سنة 2003 والتي انضم إليها
المغرب مع أنه لم يصادق عليها بعد. لأسباب لم تعرف حتى الآن،
هذه الاتفاقية تؤكد أن محاربة الرشوة لا يمكن أن تتم إلا بمشاركة أوسع
الفعاليات الاجتماعية و خاصة المجتمع المدني، كما تطالب الدول بإنشاء لجنة مستقلة
يشترك الجميع في إعداد تصورها وهياكلها لأن الرشوة ومحاربتها أمر يهم المجتمع بأكمله.
لكن ارتباطا بهذه الهيئة، لا بد من
طرح أسئلة بشأن الضمانات اللازمة حتى لايكون مسيروها مرتشين هم أيضا،و باعتبار أن الرشوة متغلغلة في مختلف القطاعات وأنها
منظومة كاملة لها قواعدها وآلياتها. وقد أثير هذا الموضوع في إحدى جلسات اليوم العالمي
للرشوة الذي نظمته ترانسبارونسي المغرب خلال دجنبر الماضي، حيث لا يمكن محاربة الرشوة بهيئة مرتشية، وهو ما يتطلب حصانة
خاصة. وأكثر ما يضمن هذه الحصانة استقلاليتها واستقلالية المسؤولين عليها، وعلى
المصالح الحكومية الانخراط فعليا في ضمان ذلك وعدم الركوب على محاربة الرشوة كشعار سياسي وصولي.
إن إعلان الحكومة عن نواياها بشأن
محاربة الرشوة أمر غير كاف لوحده ولايشكل في حد
ذاته ضمانة، خاصة أن حكومات سابقة استنفذت جهودا كبيرة في هذا المجال ولكن فقط على
مستوى إعداد الخطابات وتسويق الكلام دون أن يتمخض ذلك عن إجراءات عملية فبالرغم من
الترسانة القانونية التي يتوفر عليها المغرب، مازال الفساد والرشوة بشكل خاص مستشريان على نطاق واسع. فالخطاب عندما لا يقترن بإجراءات عملية
هو في الواقع
خطاب فارغ. لذلك لا بد من تفعيل القانون أو القوانين الموجودة للزجر والقمع، فمثلا هناك قانون التصريح بالممتلكات
لكنه بدون فعالية. وهناك قانون يجريم الرشوة لكنه لا ينفذ كما يجب.
أكثر من ذلك فوجود القانون يحتاج إلى
دعم وإلى تربية على قيم النزاهة بحيث تصبح الرشوة مستهجنة، وهذا يتطلب إقرار نظام وطني
للنزاهة في إطار خطة وطنية مندمجة.
الرشوة وقضايا أخرى
تشكل الرشوة قضية من جملة قضايا كالبطالة والفقر
والهجرة السرية وانتشار الجريمة والغش ومجموعة من الآفات الأخرى في المجتمع، بل إن
كل هذه الآفات قد تكون في الكثير من الأحيا نتيجة للرشوة نفسها لأنها تحرم شرائح
واسعة من الوصول إلى حقوقها. ولها انعكاسات عميقة على السير الطبيعي للمجتمع.
فرشوة من أجل رخصة للبناء، ورشوة دركي أو شرطي أوجمركي تؤدي الى مآسي وحوادث لا
تحمد عقباها، على المواطن أولا وعلى المجتمع ثانيا. تنهار العمارة ويقتل الناس في
حوادث الطرق وتنتشر المخدرات وربما السلاح،ويتم تهريب البشر ووو…. كل ذلك بسبب رشوة قد يكون
مبلغها زهيدا.
ولعل هذا ما يجب أن يدفع أكثر إلى
تعزيز آلية المقاومة وقمع الظاهرة، والحد من انتشارها. وإذا استرسلنا في البحث عن نتائج الرشوة نجد أن لها آثارا سيئة جدا على النمو
الاقتصادي وعلى الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية، وقد ربط الدكتور المهدي
المنجرة في إحدى محاضراته بين الرشوة وهجرة الأدمغة المغربية التي استفادت
من تكوين عال وأنفقت الدولة من أجل ذلك مبالغ مهمة من ميزانيتها. بمعنى أن انتشار الرشوة والمحسوبية في العديد من القطاعات
يؤدي إلى هروب هذه الأدمغة مما يسبب خسائر كبيرة في الأفكار وفي الطاقات التي
بإمكانها أن تساهم في تقدم البلاد. إذ ينتهي هؤلاء في النهاية إلى أحد أمرين: إما العطالة،
وإما مناصب شغل ليست في مستوى كفاءتهم، الأمر الذي يجعلهم يفضلون وسطا يسمح لهم
بالتقدم واستثمار وتطوير إمكانياتهم.
الرشوة والأجر . بعض الناس يعتقدون بوجود
علاقة سببية بين ضعف الأجور في القطاعات المختلفة وبين الرشوة. في منها الرفع من أجور العاملين في
القطاع. إلا أن تأملا بسيطا في الواقع يوكد أن العلاقة بين الأجر والرشوة علاقة ثانوية ، لأننا نجد أنه حتى بعض كبار الموظفين ذوي الأجور العالية
يختلسون ويرتشون،
وبالتالي فإن رفع الأجر لايحد بالضرورة من الرشوة.
الرشوة والنخب والحداثة
وهناك من يرجع التخلف وعدم دخول
المجتمع الى الحداثة والانخراط في مجموعة من التطورات على مستوى العالم الى تراجع
دور النخب، وهو راجع راجع بدوره حسب هذا الطرح الى اهتمام هذه النخب بالحصول على
مناصب وظيفية. والحصول على المناصب قد يكون نوعا من الرشوة السياسية، التي تتيح للدولة تعزيز
سلطتها على حساب الأولويات الاجتماعية والاقتصادية المحددة في تحقيق حياة
كريمة تجمع بين الرفاه واحترام الكرامة الإنسانية. حيث غالبا ما تنتهي النخب
المستفيدة إلى إعلان هدنة أفكار ووقف »نضالها« الذي ظل إلى ما قبل تنصيبها يشتعل نارا من أجل
مجتمع حديث تحكمه قيم الديوقرطية والحداثة وحقوق الإنسان. مجتمع يكون فيه القانون فوق
الجميع!
تخليق الحياة العامة
مع حكومة التناوب ظهر ماعرف بتخليق
الحياة العامة. ومحاربة الرشوة جزء من هذا التخليق. لكن بالرغم من
قوة الخطاب فإن الواقع ليس على ما يرام تماما. هناك قضايا كثيرة تتعلق بالفساد طفت إلى السطح،
لا تتعلق بالرشوة فقط ولكن بالفساد بشكل عام، ويمكن الحديث عن قضايا القرض العقاري والسياحي
والقرض الفلاحي
والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وقضية السليماني والعفورة وما لا يسعه الحيز هنا، وهي قضايا وإن وصلت إلى
المحاكم فإنها لم تصل منتهاها بعد بصدور الأحكام القضائية.
تقارير الشفافية
في 2005 احتل المغرب الرتبة 78 في
مؤشر ملامسة الرشوة بحصوله على معدل لم يتجاوز 3.2 على
10، ضمن 158 دولة. وهي رتبة تكرس تراجع المغرب في مجال مكافحة الرشوة، فقد احتل من قبل رتبا متقدمة خاصة
سنة 2000 حيث تم تصنيفه في الرتبة 37 قبل أن يتراجع مرة أخرى في السنوات التالية
إلى 52
و70 و77 في سنوات 2002
و 2003 و2004 على التوالي.
هذا التراجع يدعو إلى مزيد من الحزم،
في الخطاب وفي الممارسة، في إقرار القوانين وفي تفعيلها. في قمع المرتشين وفي
إشاعة قيم النزاهة في المجتمع وتربية الناس على التحلي بها واحترامها.
ختاما
إذا كانت محاربة الرشوة مطلبا لعموم المواطنين المغاربة، فلا
يمكن أن نغفل البعد الدولي الذي أخذته هذه الظاهرة، فهي موجودة في مختلف الدول
ومنتشرة في كل مكان وإن بنسب وزحجام متفاوتة، وهي أيضا جزء من العلاقات الدولية
السياسية والاقتصادية، وبالتالي فقد صارت محاربة الرشوة ضمن أولويات المجتمع الدولي، لأنها
تؤدي إلى حرمان العديد من الدول من الاستفادة من الاستثمارات الخارجية وتمنعها من
إمكانيات النمو