يُقصد بمصطلح "توطين الوظائف" فى سياق موضوعنا هذا "إحلال العمالة الوطنية
محل العمالة الأجنبية فى سوق العمل السعودية". وتعتبر قضية توطين الوظائف
أحد أهم القضايا التى أصبحت تشكل هاجساً كبيراً لكثير من المواطنين لاسيما
الشباب، وأيضاً تعتبر من أولي اهتمامات الجهات المسؤولة فى المملكة العربية
السعودية. كما أن ظاهرة توطين الوظائف لها طابع دولى، أى أن بعضاً من
الدول تعانى منها أيضاً مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وتعتبر أحد أهم
الأسباب فى ارتفاع نسبة البطالة لتلك الدول مقارنة بالدول المتقدمة الأخري
مثل الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا واليابان. وتكمن أهمية توطين
الوظائف فى أن الفشل أو الإخفاق أو التباطؤ فى إيجاد حلول مناسبة لها فى
الوقت المناسب، قد تؤدى إلي نتائج لا يحمد عقباها مثل تفشى ظاهرة البطالة
وتأثيراتها الاقتصادية والنفسية والاجتماعية علي أفراد المجتمع.
وسنحلل توطين الوظائف فى المملكة العربية السعودية من خلال تحليلنا لبعدين
نري أنهما يشكلان محورا الارتكاز فى هذه القضية وهما؛ البعد الأول ويمثل
النظر إلي الوضع الراهن للقضية والذى نأمل أن نتعرف من خلاله علي جوهر ولب
القضية ومحاولة التوصل إلي الحلول الكفيلة والتى قد تساهم علي الأقل فى
الحد من تأزمها فى الوقت الراهن وعلي المدي القصير. بعد ذلك سنتناول طرح
البعد الثانى ويمثل النظرة المستقبلية العملية كمحاولة لتمكين المواطنين
خاصة خريجى المؤسسات التعليمية من إيجاد الوظائف التى تتلاءم مع اختصاصاتهم
وطموحاتهم. وفى الختام سنبدى بعض المقترحات التى نري بأنها لو أخذت بعين
الاعتبار، فإنها قد تسهم إلي حد كبير فى وضع عملية توطين الوظائف فى نصابها
الصحيح وبالتالى قد تلعب دوراً فى تفعيل وتنشيط الجهود المبذولة لتوطين
الوظائف.
الوضع الراهن
منذ أيام الطفرة وحتي الآن كثر الحديث عن مشكلة "السعودة" والتى نطلق عليها
فى سياق هذا التحليل "توطين الوظائف". ولقد نالت هذه القضية طيلة هذه
الفترة تغطية إعلامية كبيرة من خلال عشرات الحوارات والنقاشات والندوات
والمحاضرات ونشر بعض الكتب والعديد من المقالات وإعداد دراسات وأبحاث
كثيرة، وذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة وداخل أروقة الجامعات. إن مجمل
ما تم التوصل إليه أو التعارف عليه طيلة هذه الفترة بخصوص الوضع الراهن
لتوطين الوظائف يمكن إيجازه علي النحو التالى:
$ أن مخرجات التعليم لا تتوافق مع معطيات ومتطلبات سوق العمل؛ وبمعني آخر إن مخرجات التعليم هى السبب فى تفاقم قضية توطين الوظائف.
$ أن الشباب السعودى كسول ولا يُقبل بعزيمة علي الإنخراط فى الحياة العملية.
$ أن الشباب السعودى يتجنب الأعمال خارج المبانى المكيفة والتى تتطلب جهداً.
$ أن الشباب السعودى يرفض رفضاً باتاً الأعمال الدنيا (أى ذات الرواتب المنخفضة).
$ أن الشباب السعودى لا يلتزم بنظام العمل وغير دقيق فى مواعيده.
$ أن الشباب السعودى تنقصه الخبرة والتدريب المطلوبين لأداء مهام الوظائف.
وبالطبع إن العمالة الوافدة تنطبق عليها عكس هذه الصفات. مما يتضح أن
الشباب السعودى يتهم بجميع تلك السلبيات مثل الخطأ فى تعليمه أو توجهه وأنه
كسول وغير مكترث بنظام العمل وتنقصه الخبرة والتدريب وغيرها من سلبيات.
إن أحد أهم الدلالات علي أن هذه التهم تخرج عن إطار الموضوعية هو محاولة
إقرار التنظير بأن مخرجات التعليم لا تتوافق مع معطيات ومتطلبات سوق العمل
لأن فكرة مخرجات التعليم لابد وأن تأتى دراساتها فى مرحلة متأخرة (كما
سنري) وليس الآن أثناء دراستنا لجوهر مشكلة الوضع الراهن. والدلالة الأخري
علي الخروج عن إطار الموضوعية هو محاولة التعميم بخصوص سلبيات الشباب
السعودى. بمعني آخر فإن هذه السلبيات ربما تنطبق علي بعض أو قليل من الشباب
السعودى وليس كل الشباب.
والسبب فى الخروج عن الموضوعية بالنسبة لقضية التوطين فى الوقت الراهن هو
أنه حتي ولو تم لنا تحقيق مفهوم التنظير؛ أى محاولة توافق مخرجات التعليم
مع معطيات ومتطلبات سوق العمل؛ فإن هذا لن يحل المشكلة فى الوقت الراهن ولا
حتي علي المدي القريب. لأن الحل هنا يكمن فى القضاء علي جوهر ولب مشكلة
التوطين فى الوقت الراهن وهو فى اعتقادى وحسب ما نراه علي أرض الواقع هو ما
يطلق عليه "التستر" علي العمالة الأجنبية والتى تحاول الجهات المعنية فى
الدولة بذل جهود مكثفة لمكافحته. ولكن المواطنين يجب عليهم التعاون بكل
جدية وحزم مع الجهات المسؤولة فى المملكة العربية السعودية بمنع التستر
والقيام بحملة شعواء للقضاء عليه وعلي جميع المستويات. ولتوضيح مدي عرقلة
"التستر" لمسيرة توطين الوظائف فى الوقت الراهن، نذكر أن آخر الإحصائيات
تدل علي أنه يوجد داخل المملكة العربية السعودية نحو 3،7 ملايين غير
سعوديين. والأسئلة التى تطرح نفسها؛ هل كل هؤلاء يقومون بأعمال لا يستطيع
المواطن السعودى أن يقوم بها؟ هل المواطن السعودى غير قادر علي بيع الأجهزة
والأدوات الكهربائية؟ هل المواطن السعودى غير قادر علي بيع المواد
الغذائية والتموينية؟ هل المواطن السعودى غير قادر علي العمل كسائق سيارة
أجرة؟ هل المواطن السعودى غير قادر علي بيع موجودات الحراج وغيرها؟ هل
المواطن السعودى لا يستطيع البيع فى معارض السيارات؟ ومثل هذه الأسئلة
كثير. ولكن الشئ الذى يدعو للتفاؤل أنه وعلي وجه التقريب قبل فترة الطفرة،
كان "المزارع" سعودياً و"عامل البناء" سعودياً و"عامل المطعم" سعودياً
و"الجزار" سعودياً و"سائق الأجرة والحافلة" سعودياً؛ وغيرها من الأعمال
التى كان يقوم بها المواطن السعودى.
ولابد التنويه هنا أن أصحاب الشهادات العليا سواءً من أعضاء هيئة التدريس
الجامعى أم مديرى الشركات ورؤسائها وأيضاً أصحاب المهن المتوسطة أم الذين
يمارسون المهن الدنيا، جميع هؤلاء وغيرهم من الطبقة الكادحة مثل العمال
والمزارعين؛ يُعتبرون من وجهة النظر الاقتصادية أحد أهم الموارد الاقتصادية
للمملكة العربية السعودية. أى أن ما ينتجه الموظف الفنى (العامل) للمجتمع
لا يقل أهمية عن ما ينتجه الأستاذ الجامعى. بمعني آخر أن المواطن سواءً
تعلم أم لم يتعلم فهو يعتبر منتج، ولكن التعليم يقنن وينظم القدرة والطاقة
الإنتاجية. وخلاصة القول؛ فإنه كما أن هناك علم بالقلم والكتاب والكمبيوتر،
هناك أيضاً علم بالمهارة والممارسة والتجربة.
ولكن مع الأسف نجد اليوم أن المواطن لا يستطيع أن يدخل بعض مجالات العمل
إلا متستراً؛ فمثلاً لا يستطيع المواطن أن يعمل فى مجال بيع الملابس أو
الأدوات الكهربائية أو الأغذية والتموين أو حتي مجال الإنتاج والصناعة إلا
متستراً. وينتج عن ذلك الأمر المؤسف، والذى يفوق خطره أى خطر آخر، أن
المواطن يجد نفسه لا يستطيع أن ينافس إنساناً مغترباً ترك وطنه حتي يتقاضي
راتباً قد يصل فى أحسن الأحوال إلي ألف ريال سعودى، وبعد مرور الوقت وكسب
ثقة المواطن (الكفيل والمتستر) يتحول إلي صاحب محل عن طريقة صفقة عمولة
يقتضيها "المتستر". وبالتدريج يصبح المكفول مالك ومتصرف وبعد ذلك يتمكن من
استقطاب أبناء جنسه فقط. بهذا الأسلوب "التستر" يتشكل ما يطلق عليه "مافيا
الأنشطة التجارية". وبمعني آخر فإن كل مجال تحكمه جنسية معينة ومن يدخل
الأسواق سيجد أن البائع أجنبى والمشترى أجنبى وبائع الجملة أجنبى وبائع
التجزئة أجنبى، وبائع السيارات فى الحراج والمشترى أجنبى، وهناك العديد من
النشاطات التجارية تتم علي هذا النحو.
وفى اعتقادى أن الحل الأمثل لقضية توطين الوظائف فى الوضع الراهن يتمثل فى
تجاوز الحوارات والندوات والمحاضرات والكتب والمقالات والدراسات والأبحاث
والتنظير وتأجيلها لمرحلة أخري بعد التخلص من العقبة التى تواجه توطين
الوظائف فى الوضع الراهن، وذلك بضرورة تعاون المواطنين مع أجهزة الدولة
ولتكن من خلال حملة وطنية منظمة لها خطة مدروسة وواضحة وقوية ومركزة علي
مواقع وأوكار "التستر" والقضاء عليها وبالتالى بتر "المافيا التجارية" من
جذورها، لأنه متي تم ذلك ستفتح أبواب الرزق للمواطنين السعوديين الذين
يطمحون فى أن يمارسوا هذه التجارة براحة واطمئنان بعيداً عن منافسة مافيا
المتسترين.