إن
تراكم الديون العربية الخارجية و تشكيلها عامل ضغط في غاية الخطورة على
الدول العربية ووسيلة وورقة ضغط تستطيع من خلالها الدول و المؤسسات المالية
الكبرى المالكة ، لها أن تسيّر الدولة المدينة وفق رغباتها و أهوائها، و
المشكلة الكبرى أنها تقوم بذلك تحت ستار أنها تعمل على تنمية هذه الدولة
المدينة و تطويرها من خلال ما تقدمه من أموال تعين بها هذه الدولة على
النهوض ،رغم أنها و بطريقة غير مباشرة تقوم بإعادة هذه الأموال لنفسها ، و
من ثم تبدأ بمطالبة هذه الدولة المدينة بسداد هذا المال الذي من المفترض
انه قد تم إقراضه لها بل و تخديمه أيضا.
و نحن هنا و للموضوعية لا نحمّل هذه الدول الدائنة المسؤولية لوحدها
فالمسؤولية مشتركة بين ما رغبت به هذه الدول و ما قامت به الدول المدينة
لمساعدتها على تحقيق ما تريد من دون أن تدري ، فهدف هذه الدول المدينة كان
حصولها على المال بأي ثمن في ظل غياب إستراتيجية حقيقية لعملية التنمية و
عدم وضوح الرؤية حول طبيعة و مجالات و حدود الاستخدامات الرشيدة لهذه
القروض و الطاقات و القدرات التسديدية للدول المدينة الأمر الذي أدى إلى
إرباك عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و تبعية الحالة السياسية ،
مما احدث أخطاء جسيمة فجرت هذه الأزمة و تحولت القروض من عامل للتنمية إلى
عامل مدمر لها ، و لاسيما أمام استحالة تسديد أقساط و خدمات الديون في
مواعيدها ، فعادت هذه الدول للاقتراض لسداد ما اقترضته سابقا و بالتالي
تقديم المزيد من التنازلات سياسية و اقتصادية بل و عسكرية و اجتماعية أيضا ،
و مما زاد الأمر سوءا هو لجوء بعض هذه الدول إلى طلب إعادة جدولة ديونها
الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للتدخل في شؤونها الداخلية و رغم ما تم
تقديمه من جهود و مقترحات ومناقشات تتناول هذه الأزمة إلا أنها كانت تقوم
في جوهرها على محاولة التخفيف من الأزمة و ليس إيجاد حل ناجع لها .
كيف نشأت المديونية ؟ .
لقد بدأت الديون الخارجية بدافع الحصول على رؤوس الأموال لتنمية و تطوير
الاقتصاد الوطني فأمام عجز المدخرات المحلية للدول النامية و خاصة العربية
منها عن تلبية ما تحتاج إليه عملية التنمية من أموال لتحقيقها و تطويرها و
استمرارها لجأت هذه الدول للاستدانة و الاقتراض إلا أن التوجه غير السليم و
عدم وجود الرؤية الواضحة لتحقيق هذا الهدف و غياب التخطيط السليم و
العقلاني المطلوب ، ساهم في زيادة الحاجة للاستدانة و الاقتراض و لاسيما
عدم وضوح الرؤية حول مجالات و حدود الاستخدامات الرشيدة للقروض و غياب
الأسس و المعايير التي تحدد بموجبها الدول المدينة طاقاتها التسديدة
لديونها كلها عوامل جعلت من الدول العربية غير مكترثة عند عقدها للقروض ،
فالهدف في البداية كان الحصول على الأموال بأي شكل كان و بالتحليل النهائي
قامت الديون بامتصاص الاحتياطات لنقدية الرسمية للدول المدينة و انخفاض
القدرة الاستيرادية ، الأمر الذي أدى إلى إرباك عملية التنمية التي من
اجلها جرى استجرار القرض ،و حدوث أخطاء خطيرة ساهمت بشكل أساسي في تفجير
هذه الأزمة مما جعل الديون خطرا حقيقيا على جهود التنمية في الدول العربية و
آفاقها في المستقبل، الأمر الذي أجبر هذه الدول على تخصيص جزءا كبيرا و
هاما من مواردها الوطنية لخدمة ديونها و أمام هذه الأوضاع الصعبة جدا أصبح
من شبه المستحيل سداد أقساط ديونها و سداد فوائدها في مواعيدها مما دفعها
إلى الاقتراض من جديد ، و لكن هذه المرة لا لدفع عجلة التنمية بل لسداد
ديونها القديمة و أمام تفاقم هذا الوضع اضطرت العديد من الدول العربية التي
تثقلها الديون إلى تقديم تنازلات و تسهيلات سياسية و اقتصادية و أحيانا
عسكرية و أمنية تتناسب مع توجهات و استراتيجيات الدول الدائنة بل إن تفاقم
الأزمة في عدد من الدول دفعها إلى اللجوء إلى طلب إعادة جدولة ديونها
الخارجية الأمر الذي جعلها تحت ضغط الدول الدائنة و تدخل المنظمات الدولية
في شؤونها الداخلية و سيادتها .