أسباب تشرد الأطفال
لايمكن للدارس إرجاع انتشار ظاهرة الأطفال المشردين إلى سبب معين، وذلك لكون هذه الظاهرة لا تختص ببلد أو قارة معينة، بل تشمل مجموعة من البلدان، تختلف مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية، وتتباين ثقافاتها وأنماط عيشها.
ولذلك يبدو لنا أن تفسير انتشار هذه الظاهرة يعود إلى تفاعل جملة من العوامل، ينتسب بعضها إلى مجالات الاقتصاد والتنمية، وبعضها الآخر إلى ظروف السلم والحرب والأمن، وبعضها الثالث إلى مشكلات الممارسة اليومية للحياة في مجالات البيئة والثقافة والسلوك.
وهكذا يمكن تجاوز التصنيف التقليدي للأسباب المحتملة لتفسير انتشار ظاهرة الأطفال المشردين بالتركيز على التفسيرات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية بشكل معزول، باعتماد مقاربة تكاملية تبرز التفاعلات الممكنة بين مجموعة من العناصر تندرج كلها ضمن صنفين كبيرين: عوامل موضوعية وعوامل ذاتية.
عوامل موضوعية
وتتفاعل فيها العناصر الاقتصادية والاجتماعية بشكل متكامل، ويظهر ذلك بالخصوص في الدول النامية، ومنها دول العالم الإسلامي، حيث يبرز العنصر الاقتصادي بشكل حاسم، وبخاصة لدى الفئات المحرومة، حيث تقل فرص الشغل وتعم البطالة، وبخاصة وحتى الذين يشتغلون فإنهم يتقاضون أجوراً زهيدة، تجعلهم يعيشون في ضائقة مالية دائمة تنعكس على ظروف عيشهم ومسكنهم، بحيث نجد هذه الفئات تقطن خاصة في الأحياء الهامشية، وفي مدن الصفيح المنتشرة في ضواحي المدن الكبرى والمتوسطة، وهي أماكن صالحة لانتشار مجموعة من الأمراض الاجتماعية كتعاطي المخدرات والإجرام والدعارة ... وكل هذا يسهم بشكل أو بآخر في تضييق الخناق على الطفل بتحديد الفضاء الذي يمكنه من ممارسة طفولته في غياب بنيات تربوية ملائمة، مثل المدارس ومراكز الطفولة والشباب وملاجيء الأيتام.. إلخ الشيء الذي يجعل من الشارع الفضاء الوحيد الذي يلجأ إليه الطفل، والذي يغري باتساعه النسبي بالمقارنة مع البيت، كمجال للعب والحرية الوهمية واللقاء بالأقران.
وبالمقابل، يكتشف نوع الحياة في الأحياء الراقية من المدن، ومظاهر الرفاه التي يرفل فيها أطفال آخرون في مستوى نوع اللباس والأكل والسكن، فيقارن بين وضعه المأساوي، والوضع الذي يعيش فيه الآخرون، فيكون التشرد وسيلة للهروب من هذا الواقع ـ المأساة إلى الواقع ـ الحلم.
هذه الوضعية مرشحة أكثر إلى المزيد من التأزم في ظل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، وكأن التخلف الاقتصادي والاجتماعي للدول النامية لم يكن كافياً في تأثيره على تشرد الأطفال، ليأتي هذا النظام بتوصياته المشهورة في إعادة الهيكلة، وبالتركيز على كل ماهو اقتصادي وتهميش ماهو اجتماعي في برامج الدول.
وقد أدى ذلك إلى ارتفاع أصوات الاحتجاج والاستنكار والتحذير من نتائج تطبيق هذه التوصيات، ومنها صوت مدير اليونسيف الذي سجل مايلي:
"يمكننا أن نجد خطاً سببياً بين النظام الاقتصادي العالمي، وظاهرة أطفال الشارع، إن هذا النظام ساهم بشكل سريع في تنامي الفقر وتعطيل التقدم في بقاع كثيرة من العالم الثالث" .(1)
تتفاعل هذه العناصر الاقتصادية مع المعطيات الاجتماعية للبيئة الأسرية التي يعيش فيها الطفل حيث التفكك الأسري وانتشار الطلاق والترمل، وغياب التغطية الاجتماعية إذ بموت الأب تجبر المرأة احياناً على ممارسة الدعارة مصدراً رخيصاً للعيش ويُضطر الطفل إلى البحث عن فرص للشغل، وحتى في حال وجود الأب فإن ظروفه المادية تجبره على الدفع بأطفاله إلى مجال الشغل قبل السن القانونية إضافة إلى هيمنة الممارسات القمعية في تربية الأبناء والمتميزة بالضرب والتعسف وحتى الاستغلال البدني والجنسي... .
ويبدو أن مؤسسة الأسرة لها علاقة بهذه الظاهرة، حيث يشير أحد الدارسين إلى:
"أن ظاهرة تشرد الأطفال لها علاقة وطيدة بزوال الأسرة الكبيرة التي كانت توفر كل الضمانات المالية والأمنية والعاطفية للأبناء .(2)
وكما تتفاعل أيضاً مع البيئة التربوية المحيطة بالطفل، فغياب المؤسسات الاجتماعية مثل مراكز رعاية الطفولة ودور الشباب، وضعف نسبة التمدرس وانتشار الأمية وعدم ملاءمة التكوين لسوق العمل .. كلها عوامل تساعد على انتشار هذه الظاهرة وتدفع الطفل إلى البحث عن مصادر جديدة للتعلم والتربية، فيجدها في الشارع، وفي ثقافة التهميش والإقصاء.
وإذا أضفنا إلى ذلك كله ما تعرفه بعض دول العالم الثالث، ومنها بعض االبلدان الإسلامية، من حروب قبلية وأهلية وعرقية، مثل حيث تركز الاختيارات الاقتصادية على التسلح، الأمر الذي يقلص من فرص الاستثمارات الاجتماعية. ناهيك عن نتائج التقتيل الجماعي التي ينتج عنها أطفال أيتام بالجملة، لا مأوى لهم ولا أهل ويكون مصيرهم الشارع، بكل المخاطر التي تككتنفه
عوامل ذاتية
إضافة إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية الكامنة وراء انتشار ظاهرة الأطفال المشردين، توجد عوامل أخرى ترتبط بالظروف الذاتية والنفسية لهؤلاء الأطفال، والتي تتحول بفعل تأثير العوامل الخارجية إلى سلوك وممارسة.
(1) .Casa Alliango,1998
(2).A Obo 1996
تظهر هذه العوامل الذاتية أو الفلسفية(1) في شكل تطور صورة أو مفهوم الذات عند المرأة ـ الأم، فقد كانت هذه الصورة مرتبطة أساساً بالعلاقة مع البيت والأبناء والأسرة ... ولكنها، وبعد الخمسينات أصبحت أكثر ارتباطاً بالعمل، إنها صورة جديدة أشبه ماتكون بصورة الرجل. هذا الانتقال كانت له تأثيرات عميقة على الأسرة واستقرارها، وبالتالي على قيمة الطفل داخل هذه الأسرة، كما عرفت المكانة التي كان يحتلها الرجل خلخلة، إذ لم يعد هو الممول الوحيد لحاجات الأسرة، وانتقل اهتمام المرأة من مجرد تحقيق الذات إلى الصراع من أجل مكانة متميزة داخل الأسرة، الأمر الذي تسبب في حالات كثيرة من الطلاق أدى ثمنها الأبناء الذين افتقدوا التماسك الأسري السابق.
وحتى في غياب حالات الطلاق، تكون الأسرة عرضة لأشكال دائمة من الصراع اليومي بين الرجل الذي لا يريد أن يتنازل عن مكانته السابقة، والمرأة التي لا تروقها وضعية التابع لزوجها، بل تسعى إلى مكانة أليق.
وبموازاة مع هذا، تظهر جملة من العوامل النفسية (2)المرتبطة بنوع العلاقة بين الطفل وأبويه أو بأحدهما، فهناك من جهة قسوة الأب، ومن جهة ثانية انعدام قدرة الدفاع عن النفس لدى الطفل... مما يؤدي إلى ظهور مشكلات نفسية مثل الفصام وعدم القدرة على التحكم في الذات والميل إلى الاكتئاب والقلق، والتبول في الفراش، ومرض السرقة... .
(1)Gendreau 1978
(2)Bettelehem 1970
وتدفع هذه العوامل بالطفل إلى مغادرة المنزل بحثاً عن ظروف جديدة تسمح له بتأكيد ذاته داخل جماعة من الأقران في ظل حرية "وهمية".
وبصفة عامة، يمكن أن ننظر إلى تفاعل هذه العوامل الموضوعية والذاتية وعلاقتها بانتشار ظاهرة الأطفال المشردين من خلال الرسم الآتي:
رسم رقم 1: العوامل الذاتية والموضوعية لتشرد الأطفال
جدول
ويظهر من خلال الرسم السابق تفاعل العوامل الذاتية والموضوعية، وكيف تؤثر الجوانب الاقتصادية في العناصر الاجتماعية، وعلاقة هذه الأخيرة بظاهرة انتشار ظاهرة الأطفال المشردين.
إن تأثير كل عنصر على حدة هو إمكانية لحدوث الظاهرة، ولكن تفاعل أكثر من عنصر يصبح تحققاً لهذا الحدوث، فوجود حروب أهلية كاف لظهور الأطفال المشردين في غياب ظروف اجتماعية واقية، وحضور عوامل ذاتية يقوي من احتمال انتشار الظاهرة إذا ساندته عوامل موضوعية اقتصادية أو اجتماعية.
ومن هذا المنظور، نستطيع أن نفهم حجم انتشار ظاهرة الأطفال المشردين في الدول الفقيرة، حيث تكثر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتغيب المرافق التربوية في شكل بنيات تحتية أو وظائف وبرامج تعليمية وتكوينية وثقافية.