الضغوط الاستعمارية على المغرب
خلال القرن التاسع عشر
تعرض المغرب خلال هذا القرن لضغوط الدول الإستعمارية، فاتخذت تارة صبغة عسكرية، وتارة أخرى إجراءات دبلوماسية واقتصادية استهدفت انتزاع أجزاء ترابية من المغرب والتقليل من مكانة المخزن وسلطته وغزو سوقه الداخلية. وقد أدت هذه التدخلات إلى اقتناع المخزن بضرورة الشروع في محاولات إصلاحية لتحديث البنيات العسكرية والإقتصادية والإدارية العتيقة تفاديا للسقوط تحت الهيمنة الأجنبية.
الضغوط العسكرية والإقتصادية:
تجسدت الضغوط العسكرية الأوربية على المغرب في مواجهتين عسكريتين، أولهما في إسلي سنة 1844م، والثانية في تطوان سنة 1859م، وبموازاة ذلك واجه المغرب ضغوطات اقتصادية قوية انتهت بتوقيعه لمعاهدات تجارية كانت بنودها لفائدة الإقتصاد الأجنبي.
- كانت لهزيمة المغرب أمام الجيش الفرنسي في إسلي عواقب وخيمة:
وجدت فرنسا في مؤازرة المغرب للأمير عبد القادر الجزائري في مقاومته للفرنسيين، ذريعة لتوجيه ضربة قوية إلى المغرب حتى تدخله في دائرة نفوذها الإستعماري، فبدأت تتأزم العلاقات تدريجيا بين البلدين، وبهذا فقد شنت فرنسا حربا على المغرب الذي رفض منع عبد القادر الجزائري من اللجوء إلى التراب المغربي، فضربت مراكبها الحربية تحصينات مدينة طنجة في 6 غشت 1844م، ثم مرسى الصويرة في 11 غشت 1844م ، ويعتبر هذان المرسيان المصدر الأساسي لمداخيل المغرب الجمركية، وفي 14 غشت من نفس السنة تواجهت جيوش البلدين في معركة إسلي التي أسفرت عن هزيمة الجيش المغربي أمام الجيش الفرنسي، وبهذا تكون فرنسا قد حققت ثلاث انتصارات حاسمة ضد المغرب برا وبحرا مما عزز موقفها فأمضى الطرفان معاهدة صلح بتاريخ 10 شتمبر 1844 نصت على تعيين الحدود بين المغرب والجزائر، وتمكن الفرنسيون باستعمال المال من كسب المفاوضين المغاربة إلى جانبهم، فتنازل لهم هؤلاء عن أجزاء ترابية مغربية أدخلوها في بلاد الجزائر، ثم وقع المفوض المغربي حميدة الشجعي على مشروع اتفاقية الحدود في قرية للامغنية يوم 18 مارس 1845م، التي اكتنفها الغموض إذ لم ترسم الحدود رسما واضحا إلاَّ على مسافة قصيرة من البحر المتوسط تصل إلى ثنية الساسي، بينما اقتصرت في القسم الواقع بين ثنية الساسي وجنوب فكيك على توزيع القصور بين البلدين دون تحديد جغرافي، وتعمدت فرنسا ذلك الغموض كي تستغله للتدخل في المغرب والضغط عليه خاصة وأن الإتفاقية أقرت مبدأ حق المتابعة.
وبصفة عامة فقد جرد المغرب من خلال هذه الإتفاقية من أراضيه الممتدة غرب وادي تافنا (البند 3)، وأدخل قسم من الجنوب الشرقي في تراب الجزائر، وتركت الصحراء مجرد مرعى لسكان البلدين من غير تحديد ( البند 4) في الوقت الذي كان فيه القسم الكبير يدين بالبيعة لملوك المغرب عبر القرون، وفيما عدا الأراضي الواقعة جنوب قصور الصحراء (البند 6) والتي اعتبرت فلاة لا تحتاج إلى تحديد فقد ضمن حق اللجوء السياسي لرعايا كل بلد في القطر المجاور ما عدا الحاج عبد القادر الجزائري ( البند 7).
وقد رفض السلطان مولاي عبد الرحمان التوقيع على المعاهدة بعدما اضطلع عليها واستنكر تصرف عامل وجدة وكاتبه في جزء من السيادة الوطنية الذي هو تراب البلاد وقسم من سكانها، فرفض المصادقة على المعاهدة كما هي واعتبرها خدعة من المفاوض الفرنسي، فحاول أن يعين مفاوضا جديدا لنقض ما أبرمه سابقه لكن ضغط الحكومة الفرنسية وتهديدها بقنبلة الموانئ المغربية جعل السلطان المغربي يقبل التفاوض فقط في الفصول التي أذن للمفاوض بالتفاوض فيها ورفض ما لم يِؤذن فيه.
- ألحق الإسبانيون بالمغرب هزيمة ثانية في تطوان 1859 – 1860م:
أزاحت هزيمة معركة إسلي الستار عن ضعف المغرب عسكريا، فاستغلت اسبانيا خلافات بسيطة مع القبائل المجاورة لحدود مليلية، بالإضافة إلى مناوشات على حدود سبتة بين حاميتها العسكرية وأفراد من قبيلة أنجرة في صيف 1859م، فأعلنت الحرب على المغرب بعد أن أعطت ضمانات لبريطانيا بعدم احتلال طنجة وبالإنسحاب من الأراضي المغربية المحتلة بعد توقيع معاهدة صلح، وقد انتهت الحرب التي كانت غير متكافئة على جميع المستويات بهزيمة المغرب واحتلال إسبانيا لمدينة تطوان في 6 فبراير 1860م، فرضخ المغرب للأمر الواقع وعقد صلحا مع إسبانيا في معاهدة تطوان 26 أبريل 1860م، وفق شروط قاسية شملت الموافقة على توسيع حدود سبتة ومليلية والتنازل لإسبانيا عن قطعة أرض في الجنوب المغربي لبناء مركز للصيد البحري، إضافة إلى أداء عشرين مليون ريال كغرامة حربية.
فكان أول ما شغل اهتمام الدولة بعد عقد هذه المعاهدة هو كيفية الحصول على المال الكافي لتغطية تعويضات الحرب المتفق عليها، فاضطر المغرب إلى التعاقد على أول قرض أجنبي في تاريخه من الرأسماليين الإنجليز، كما اضطر إلى السماح بجلوس الإسبان بأبواب جمارك المراسي لاقتطاعهم نصف مداخيلها.
تسبب تسديد هذا الدين في إفراغ خزينة الدولة إلاَّ من مصروفات الجيش وإحداث أزمة مالية كان انعكاسها واضح المعالم على الحياة الإقتصادية والإجتماعية للمغرب، وتقاسم السيادة على موانئ البلاد، الشيء الذي أدى إلى تدهور أوضاع البلاد المالية، إذ أن أداء غرامة الحرب لفائدة إسبانيا وتسديد الفوائد المترتبة عن القروض للإنجليز قد ساهم في إنهاك بيت المال المغربي وخروج العملة الفضية من البلاد وحلول العملات الأوربية محلها إضافة إلى قطع نقدية نحاسية أقل قيمة وجودة، فأصبح المغرب يعيش بذلك أزمة مالية خانقة.
- فتحت معاهدة 9 دجنبر 1856م بين المغرب وبريطانيا أبواب البلاد أمام الرأسمالية الأجنبية:
واكب التدخل العسكري والسياسي الأوربي ضغط اقتصادي كان الهدف منه فتح السوق المغربية أمام البضائع الأجنبية، ذلك أن السلطان مولاي عبد الرحمان اعتمد سياسة جمركية مكنته من التحكم في المبادلات مع الخارج، إذ كانت الرسوم الجمركية تختلف نسبتها من ميناء لآخر وتتغير قيمتها من حين لآخر، فتضايق التجار الأجانب من هذه الوضعية وتدخلت حكوماتهم للضغط على المغرب من أجل إخضاع مبادلاته لاتفاقيات تجارية، وقد اتخذت بريطانيا المبادرة بحكم تبنيها سياسة الباب المفتوح وتخليها المبكر عن الحمائية، وطالبت المولى عبد الرحمان بضرورة إعادة النظر في القوانين المنظمة للمبادلات بين المغرب وأوربا والعمل على تحرير التجارة من القيود المفروضة عليها لتصبح مسايرة للنهج الإقتصادي الليبرالي السائد في أوربا.
وبعد مفاوضات عسيرة حاول المخزن التملص فيها من الإستجابة لرغبات بريطانيا، وتحت الضغط والتهديد باستعمال القوة، أبرم المولى عبد الرحمان في 9 دجنبر 1856م، اتفاقية تجارية ومعاهدة صلح ومهادنة مع بريطانيا، فكانت كل بنودها موجهة لخدمة الأجانب على حساب المغاربة، إذ تضمنت مسألة تحرير التجارة وحرية تنقل التجار البريطانيين وإمكانية السكن والتملك، كما تم تحديد الرسوم الجمركية على كل الواردات في عشر القيمة فقط، وقدم المغرب إلى رعايا الدول الأوربية في معاهدة الصلح والمهادنة هذه بحكم تعميمها تطبيقا لمادة الدولة الأكثر تفضيلا فتستفيد منها على الفور بقية البلدان الأوربية، امتيازات قضائية اعتبرت ضرورية لعلاقتها بالنشاط التجاري، تتلخص في إقصاء القضاء المغربي من البث في النزاعات القائمة بين الرعايا الإنجليز على أرض المغرب، وفي ضرورة حضور القنصل الأجنبي أثـناء بث القاضي في النزاعات بين رعايا مغاربة وأجانب بهدف محاولة التأثير على القاضي المغربي خاصة وأن القنصل يتوفر على قوة دولته المستعدة للتدخل ومؤازرته عند الحاجة، إضافة إلى إعطاء أعوان القناصل وسماسرة التجار وشركائهم من المغاربة امتيازات قضائية وجبائية إذ لا يلزمهم جزية ولا غرامة ولا ما يشبه ذلك.
وقد فتحت هذه الإتفاقية التجارية السوق المغربية على مصراعيها أمام منتجات أوربا ومصنوعاتها وخاصة البريطانية منها والفرنسية، فألحقت الأضرار بالمنتجات الحرفية والمحلية.
كما شكلت الحماية القنصلية خطرا كبيرا على سيادة المغرب، وتتلخص في منح الممثلين الدبلوماسيين والقناصل المعتمدين في المغرب حماية دولهم لرعايا مغاربة، فيصبحون وهم يعيشون على أراض المغرب ويحملون جنسيته، غير خاضعين لقوانينه، وغير ملزمين بأداء ضرائب أو غيرها من الواجبات المفروضة على بقية المغاربة، وقد نصت على ذلك معاهدة 1856 مع بريطانيا وزادت من تعميقه وتوسيعه بنود الإتفاقية المغربية الفرنسية لسنة 1863م، والتي أدت إلى ترسيخ الإمتيازات الممنوحة للأوربيين وتكريس نظام الحماية الفردية، كما حالت دون متابعة موظفي المخزن للمخالطين.
وكانت عواقب الحماية القنصلية بالغة الخطورة، إذ صار المحميون أداة لتفكيك بنيات المجتمع المغربي ووسيلة لتوسيع النفوذ الأجنبي ومؤثراته داخل البلاد، وما فتئت أن تحولت مع مرور الوقت إلى سرطان شلَّ كل الذات المغربية، إذ شملت عامة الناس وخاصتهم وموظفي المخزن من قواد وعمال وكذا شيوخ الزوايا، بل امتد الحمايات لتشمل بعض وزراء المخزن عند مطلع القرن العشرين ( المنبهي وزير الحربية)، كما انضوى تحتها كبار التجار والأثرياء خاصة حينما تحولت بطاقة الحماية إلى سلعة بيد الأوربيين يتاجرون فيها، الشيء الذي زاد من تأزم أوضاع البلاد.
ردود الفعل المغربية ومحالات الإصلاح:
بعد تعاقب هزيمتين عسكريتين أمام الجيوش الأوربية تبلور داخل المغرب اتجاه اقتنع تدريجيا بضرورة الشروع في إعادة النظر في الأسس والبنيات التي تقوم عليها البلاد، على المستويات العسكرية والإدارية والإقتصادية وغيرها.
- الإصلاحات الجبائية والإدارية:
أصبح الحزم في ضبط شؤون المراسي والحرص على الرفع من مداخيلها الجمركية ضرورة ملحة لتمكين المغرب من مواجهة النفقات الجديدة التي فرضتها المحاولات الإصلاحية، ومن تسديد ما تبقى من الغرامة الإسبانية والسلف الإنجليزي.
ولم يكن أمناء المراسي وموظفوها يتقاضون مرتبات قارة، مما فسح المجال أمام انتشار التهريب والنهب والتلاعب بالمداخيل الجمركية، ولهذا أصدر السلطان محمد بن عبد الرحمان ظهيرا لإصلاح المراسي ينص على إقرار راتب شهري لأمناء المراسي وموظفيها، فكان لهذا الإصلاح نتائج إيجابية على أرض الواقع، إذ سجلت المداخيل الجمركية ارتفاعا ملموسا شجع على التفكير في تعميم نظام الأجور على جل موظفي المخزن محليا ومركزيا، غير أن تقلبات الظرفية الإقتصادية المرتبطة بالجفاف وما كان ينجم عنه من مجاعات وأوبئة وأزمات دورية لم تكن كفيلة بضمان مداخيل مالية قارة تسمح للدولة بمواجهة التزاماتها مواجهة منتظمة.
كما فرض السلطان محمد بن عبد الرحمان مكوسا على التجارة المارة عبر أبواب المدن سميت مكوس الأبواب، وأخرى على الدواب الحاملة للبضائع لبيعها داخل المدن سميت مكوس الحافر، وفرضت في السنوات اللاحقة مكوس الأسواق وهي ضرائب تفرض على مختلف المبيعات في الأسواق سواء كان مصدرها داخلي أو خارجي.
كما عرفت الإدارة المغربية تنظيما جديدا في عهدي السلطانين سيدي محمد بن عبد الرحمان ومولاي الحسن الأول، حيث أصبحت الإدارة المركزية تتكون من خمس وزارات متخصصة متمثلة في الصدر الأعظم الذي يهتم بالشؤون الداخلية والأمور البرانية، ثم وزارة العدل وهي وزارة الشكايات، ووزارة المالية ويشرف عليها أمين الأمناء، وأخيرا وزارة الحرب. كما تضم الإدارة المركزية بالإضافة إلى ذلك عددا من الكتاب ينتظمون في دواوين متخصصة، ويعين السلطان عمالا وقوادا يمثلونه على الصعيد الإقليمي والمحلي ويسهرون على تنفيذ أوامره.
كما تم تنظيم البريد لتسهيل الإتصال بين المدن، وتطوير ميدان التعليم وسك نقود جديدة من أجل التقليل من الأزمة المالية التي كانت تعرفها البلاد.
- محاولات الإصلاح في الميدان العسكري:
اعتمد المغرب في تكوين جيشه على مدربين عثمانيين وعلى إرسال عناصر للتدرب في صفوف الجيش المصري، غير أن نتائج معركة إسلي وحرب تطوان أكدت فشل ذلك النهج، فقرر سيدي محمد بن عبد الرحمان الإعتماد على خبرة الأوربيين، لذا وابتداء من سنة 1877م، أسندت مهمة تدريب الجيش المغربي إلى بعثات عسكرية أجنبية، يتقاضى أعضاؤها من المغرب أجورا وتعويضات تبلغ ضعف أجورهم الأصلية.
وكانت الفرق العسكرية الحديثة التكوين في حاجة إلى المعدات الحربية العصرية، فأنفقت مبالغ ضخمة لجلب أنواع مختلفة من البنادق والمدافع، وفي سنة 1868م تم تأسيس "ماكينة" لصنع الأسلحة بفاس وتطوير مصنع آخر لصنع الذخيرة بمراكش، وتم أيضا توجيه بعثات طلابية مغربية إلى أوربا لتلقي علوم ذات صلة بالأعمال الحربية.
- محاولة الحد من خطر الحمايات بالدعوة إلى تقنينها اعتمادا على نصوص المعاهدات:
لم يتمكن سيدي محمد بن عبد الرحمان من وضع حد للخروق التي تعرضت لها سيادة المخزن وماليته نتيجة اتساع عدد المحميين، وتبين أن الإصلاح الشامل لأحوال البلاد يتوقف على استئصال داء الحماية من البلاد، فأرسل المولى الحسن سنة 1876م سفارة إلى أوربا لإقناع حكومات الدول الأوربية بوضع حد للحماية القنصلية، غير أن هذه الدول تمسكت بالإمتيازات التي خولتها لها معاهداتها مع المغرب، فانتهى الأمر إلى انعقاد مؤتمر مدريد سنة 1880م، الذي حقق فيه الأجانب مكاسب جديدة من أبرزها السماح لهم بامتلاك العقارات وشراء الأراضي، واستفحلت الحمايات التي أبقى عليها المؤتمر استفحالا كبيرا في السنوات اللاحقة وزادت من تأزيم أوضاع المغرب على كل المستويات.
خاتمة: وهكذا فقد مارست الدول الأوربية ضغوطا سياسية وعسكرية واقتصادية على المغرب طيلة القرن التاسع عشر، أرغمته على تقديم سلسلة من التنازلات استنزفت خزينته وأنهكت قواه، واقتطعت أجزاء من ترابه الوطني، كما سهلت اتساع نطاق التغلغل الإمبريالي مع استفحال ظاهرة الحماية القنصلية وفشل المحاولات الإصلاحية.