] فاطمة الفهرية: مشيدة جامع القرويين.
لم يخطر ببال فاطمة أم البنين، المرأة القيروانية، وهي تؤسس جامع القرويين، ابتغاء مرضاة لله، أنها ستساهم في بناء صرح منار وهاج شكل عبر مساره التاريخي « قبلة لرجال الورع والتقوى يؤدون فيه صلواتهم ويرشفون في جنباته من الفيض الإلهي،...وبيتا للعلم ومعقلا لرجالاته البارزين في مجال التاريخ والفقه والحديث والفلسفة والأدب، ممن كانوا يترددون في رحابه ملقنين أو دارسين»
ففاطمة الفهرية، ابنة أبا عبد الله محمد بن عبد الله الفهري، ـ فقيه مهاجر من إفريقية ( تونس ) ـ لم يكن بناؤها لمسجد القرويين ابتغاء التقرب من أصحاب التجلة على حد تعبير ابن خلدون، ولا رغبة في استمالة مريدين محتملين يرفعونها إلى مقام الصلحاء والأولياء، ويروجون عنها خوارق يصعب على دوي الألباب تصور حدوثها، ولا رغبة في اتخاذ بناء المسجد مطية لجمع تبرعات تصرف في غير مقاصدها.
فبناء أم البنين لمسجد القرويين « كان بمثابة كرامة صوفية بل من قبيل المأثور الخارق الوارد على الألسن...» .
فقد ورثت فاطمة الفهرية، وهي « امرأة مباركة صالحة، من زوجها وأختها، مالا جسيما حلالا طيبا ليس فيه شبهة لم يتغير ببيع ولا شراء، فأرادت أن تصرفه في وجوه البر وأعمال الخير، فعزمت على بناء مسجد تجد ثوابه في الآخرة، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا .
حرس فاطمة أخت مريم ـ مؤسسة مسجد الأندلس ـ على عدم تلويث أجر ثوابها ، دفعها إلى شراء موضع القرويين من رجل من هوارة، ودفعت الثمن من حصتها من الإرث المذكور الذي كان مالا خالصا لا تشوبه أية شائبة، كما أكدت ذلك مختلف المصادر التاريخية الإسلامية.
ورغبة من ابنة القيروان، في تحصين أجر ثواب بناء المسجد، فلم تدخل فيه من تراب وماء غيره،« فبنته بالطابية والكدان، وأخرجت منها التراب والحجر والرمل الأصفر الطيب، فبنت به الجامع المذكور كله حتى تم، ولم تدخل فيه من تراب غيره، وحفرت البئر التي في الصحن، فكان البناءون يسقون منها الماء لبناء الجامع المكرم حتى فرغ من بنائه، ولم تصرف فيه سواه احتياطا منها وتحريا من الشبهة » .
ففاطمة الفهرية تشكل ـ بصدق إيمانها وإدراكها القوي لعلاقة المخلوق بخالقه دون وساطة، إذ لا رهبانية في الإسلام ـ نموذجا للمؤمنات الصادقات العفيفات الطاهرات المجلات لقدسية الوطن ورحابته واتساع أحضانه لكل بني الإنسان دون تمييز...
فطوال فترة بناء المسجد التزمت التزمن أم البنين الصوم، وعند الانتهاء من بنائه أمته وأقامت به صلاة الشكر على ما وفقها الله إليه، ولم تجمع مريدين ولا شيع يحملون بيارق وشارات تمجد إنجازاتها وانتصاراتها على بني جلدتها.