مقدمة.
يعتبر الأدب الأمازيغي فرعا أصيلا، وغصنا يانعا من فروع شجرة الأدب المغربي، إذ يمكن اعتباره بشكل عام مفهوما يشمل محيطا لغويا وثقافيا بمختلف الفضاءات التي تتداول فيها اللغة الأمازيغية وبالأخص، مناطق سوس، والأطلس المتوسط، والريف بمقاييس مختلفة من منطقة إلى أخرى، ويشمل من جهة ثانية مختلف الإنتاجات الإبداعية إلى أنتجها المبدعون باللغة الأمازيغية في العقود الأخيرة، من شعر، وقصة، ورواية، ومسرحية... سواء تلك المكتوبة منها بالحرف العربي، أم اللاتيني، أم بحروف تيفيناغ.
إن معظم الكتابات التي تناولت الأدب الأمازيغي بالمغرب - وهي قليلة - تكتفي بالأدب الأمازيغي الشفهي، ويغيب عنها الأدب المكتوب، فإذا تجاوزنا بعض المحاولات الجزئية التي تظهر بين الفينة والأخرى إما في شكل مداخلات في الندوات والملتقيات الأدبية والعلمية، أو مقالات في الجرائد والمجلات، وإما في شكل تقديم لأعمال إبداعية، فإننا لم نعثر لحد الآن على دراسة متكاملة لهذا الأدب في صورته المكتوبة.
الأدب الأمازيغي المغربي: الخصائص والمميزات
يستمد الأدب الأمازيغي خصائصه ومميزاته من الظروف التاريخية المحيطة بوجوده، فهو كما يقول الأستاذ محمد حنداين "لا يشبه الأدب الفرنسي الذي ارتبطت جذوره بالثقافة اللاتينية، ولا يشبه الأدب العربي الذي كان شفويا ثم انتقل إلى الكتابة (...) إن الأدب الأمازيغي كان مكتوبا بحروف تيفيناغ منذ 3000 سنة ق.م. ثم تحول إلى الشفوية (...) ثم بدأ يرجع إلى الكتابة بطريقة واعية وليست تلقائية"( ).
إذا تجاوزنا هذا القول الذي يقتضي الاطمئنان إليه مزيدا من التعمق والبحث، نجد أن أغلب - إن لن نقل كل - الدارسين للأدب الأمازيغي يتفقون على أن الخاصية الأساسية المميزة لهذا الأدب، كغيره من الآداب التي تنعت بالشعبية هي الشفاهية، ذلك أن الأمازيغ كما يقول الباحث والشاعر محمد مستاوي في أكثر من مناسبة شعب يقرأ بالآذان ويكتب بالشفاه، ويعتبر الشعر من أهم الأجناس الأدبية وأقدمها في الأدب الأمازيغي، وهو لا ينفصل عن الغناء والرقص، لذلك نجد أن مصطلح "أمارك"( ) في الأمازيغية، أي الشعر يحيل على الغناء والرقص الجماعيين، وهكذا "فالشعر الأمازيغي غنائي في جوهره،مصطبغ بالشفهية والجماعية،اللتين تجعلان منه إنتاجا مرهونا بظروف تواصلية مباشرة"( )
وللشعر في الأمازيغية أسماء عديدة بحسب المناطق الأمازيغية، وبحسب الأغراض والمواضيع، ونوع المحافل الغنائية التي يلقى فيها، ففي أمازيغية شمال المغرب (الريف) : نجد على سبيل المثال"ءيزران" و"لغنوج" كما نجد "إيزلان" و "تاماوايت" و"ثايفارت" بالنسبة لأمازيغية الوسط (الأطلس المتوسط)، وتنفرد أمازيغية الجنوب (من ضواحي مراكش إلى تخوم الصحراء بالجنوب) بأنواع: "ءورار" و"تازرارت" و"تاماواشت".( )
والجدير بالذكر كذلك، أن النثر في الأدب الشعبي الأمازيغي يشمل الحكاية، والأسطورة، والخرافة، والأمثال، والأحاجي...إلخ، ولكل جنس من هذه الأجناس خصائص فنية تميزه من الأجناس النثرية الأخرى، ويمكن القول، إن النثر التقليدي في الأدب الأمازيغي بمختلف أجناسه، على غرار نظيره في مختلف الثقافات يدخل في عداد الموروثات السردية التي صاغها المبدع الجماعي، المجهول الهوية في غالب الأحيان.
وبالرغم من انحصار هذه الأجناس النثرية، وتوقف عجلة تطورها وتداولها في العقود الأخيرة. فإن الأدب الحديث أكسبها حيوية جديدة، وأمدها بعناصر الاستمرار والحياة، بحيث غدت مرجعية رمزية وأسطورية مهمة للأدب الأمازيغي المكتوب، كما أن الأدب المغربي الحديث باللسانين العربي والفرنسي، يستقي أحيانا بعض عناصره من الموروث النثري التقليدي.( )
عدد محمد الحبيب الفرقاني- بالإضافة إلى ما تقدم - مجموعة من الخصائص التي تميز الأدب الأمازيغي، وتطبعه بخصوصيات معينة( )، منها أنه أدب فطري يميل إلى البساطة، لأن الإنسان الأمازيغي أصلا إبن القرية، ربيب البادية، وحليف الطبيعة، لكن البادية عند الأمازيغ في المغرب ليست كالبادية في الجزيرة العربية - على حد تعبير الفرقاني - فالبادية في الجزيرة العربية تحيل على القساوة والخشونة، والقحولة، على عكس بادية الأمازيغ خاصة في الجبال والسهول والسفوح حيث تتوفر كل وسائل الأنس والفرح والانفتاح.
ومن مميزات هذا الأدب - حسب الفرقاني دائما - أنه إنتاج أصيل بمعنى "أن كل ما أنتجه الأمازيغ من فنون الأدب(...) إنما هو إنتاج ذاتي، صدر مباشرة وبأصالة مطلقة عن ذات المغاربة الأمازيغ، ولا أثر فيه لأي مؤشر أجنبي"( )، ويرى الفرقاني أن الثقافة الوحيدة التي تأثر بها الأمازيغ في آدابهم هي الثقافة الإسلامية، يترتب عن هذا كله كون الجمال في الآداب والفنون الأمازيغية، جمالا فطريا طبيعيا مطابقا للبيئة التي صدر عنها، وعاكسا لمميزاتها وسماتها.
الأدب الأمازيغي المعاصر: النشأة والتطور.
يمكن التأريخ للفترة المعاصرة في الأدب الأمازيغي بدخول الاستعمار، وقد أنتج الأمازيغ في بداية هذه الفترة إبداعا مهما، خاصة الشعر اتسم في معظمه بمسحة المقاومة والتصدي للاستعمار، ففي منطقة الريف حيث اشتدت المقاومة المنظمة من لدن الزعيم عبد الكريم الخطابي، ازدهر شعر المقاومة، خاصة النوع الشعري المعروف في الريف "بالإيزري"، وهو ما يذهب إليه الباحث فؤاد أزروال مؤكدا أن الشعر الأمازيغي بمنطقة الريف في هذه الفترة (كان شعرا وطنيا صادقا، يعتمد على التحريض، ولهجة المقاومة والتصدي للعدو الغاشم."( ) فضلا عن تسجيله لأهم الأحداث التاريخية التي عرفتها المنطقة و "معايشة صراع المجاهدين ضد الطاغي الإسباني الذي استهدف الريف لاستغلاله اقتصاديا، وإذلاله اجتماعيا، وتبشيره وتنصيره دينيا"( ).
وفي الأطلس المتوسط، يسجل لنا الشعر الأمازيغي - أو على الأقل ما قدر له أن يروى ويكتب - مقاومة سكان الأطلس وبطولاتهم في محاربة الاستعمار، المقاومة التي امتدت من سنة 1912 إلى سنة 1920، وقد أولى محمد شفيق عناية خاصة لهذا النوع من الشعر في الأطلس المتوسط ، وشرقي الأطلس الكبير.( )
وهناك أدب غزير يخص المقاومة في المناطق الجنوبية. وخصوصا الشعر، أشار إليه الباحث محمد مستاوي في كتاباته العديدة( ). وكذلك الحبيب الفرقاني( ) كما أعد عمر أمرير بحثا جامعيا حول شعر المقاومة في سوس، وجمع كمية مهمة من الأشعار في هذا الباب( )
ويمكن اعتبار عقد السبعينيات من القرن العشرين منعطفا حاسما في تاريخ الأدب الأمازيغي بالمغرب، ذلك أن هذه الفترة عرفت بداية انتقال/ تحول هذا الأدب من الطابع الشفوي إلى الكتابة والتدوين، حيث ظهرت ولأول مرة مجموعة من الأعمال الإبداعية من أجناس مختلفة (شعر، قصة، نصوص مسرحية...)، ذلك أننا إذا تجاوزنا بعض المحاولات/ التجارب ذات أغراض توثيقية وتدوينية، رغم أهميتها، فإن أول ديوان أمازيغي يصدره شاعر هو ديوان "إسكراف" / القيود للشاعر محمد مستاوي سنة 1976، ويرجع ظهور الأدب الأمازيغي إلى عدة أسباب ذاتية وموضوعية، يتداخل فيها الثقافي بالسياسي، والملاحظ أن لهجة "تاشلحيت" حضيت لحد الآن بالسبق والريادة في هذا المجال، فقد وجدت هذه التجربة الأرض الخصبة لها في منطقة سوس والجنوب، وهو ما نلمسه في نسبة الإبداع السوسي ضمن بيبلوغرافيا الأدب الأمازيغي من جهة، ومن جهة ثانية في الكتابة ضمن أجناس إبداعية مختلفة، فبالإضافة لجنس الشعر - الذي لم نعثر على غيره لحد الآن في المناطق الأمازيغية الأخرى -نجد المبدع السوسي كتب في جنس القصة والمقالة الأدبية( ) والكتابة المسرحية.
إن الأدب الأمازيغي المكتوب قد احتفى بمجموعة من القضايا والاهتمامات والهموم الذاتية، والاجتماعية، والسياسية، فهذا محمد مستاوي ينسج إيقاعات شعره من آلام الواقع الاجتماعي ببنياته المهترئة، وتناقضاته المختلفة.
يقول في هذا الصدد:
ساقساغ ءايور
ساقساغ ءايور داغاريالا ماف ءالان؟
ءيملين يان ءورءيدل سيات ءور ءيشي يات
ءيملين ويسين ءيكن فترشت ن - ووسان
ءيدل سطاياض ءيبرماس كراكاران
ترجمة:
سألت القمر
سألت القمر لما بكى لما البكاء؟
باشعته دلني على إنسان جائع وعار،
ودلني على تان يفترش فراشنا
ويلتحف بآخر محاطا بكل الحاجيات. ( )
نجد تيمات النقد الاجتماعي، والسياسي، والأخلاقي، وتعرية مختلف أشكال الاستغلال تيمات بارزة في دواوين: "إسكراف"/ القيود، و"تاضصاد ئمطاون"/ الضحك والبكاء، و"أسايس"/ المرقص لمحمد مستاوي، وبالرغم من أن ديوانه الأخير "تاضا نكيوين"/ الأمواج يحتفظ بنفس التيمات فإنه يقدمها بصورة جديدة، مخصبة بشحنات تخييلية مبتكرة.
ومن أهم رموز الأدب الامازيغي المكتوب، بالإضافة إلى محمد مستاوي نذكر: حسن ايد بلقاسم، وأحمد عصيد، وإبراهيم اوبلا، وأحمد الزياني، وسعيد الموساوي، وعائشة بوسنينة الخ
وقد تناولوا في إبداعاتهم مواضيع وطنية وقومية وإنسانية.
يقول إيد بلقاسم في ديوان "تسليت اونزار"/ عروسة الشتاء وهو يتطلع إلى مستقبل إنساني تسوده قيم الخير، والإخاء والمساواة:
تودرتاد ناغ تكا زوندءامان
تيلي يات تكزيرت -غ- طوزمت- وامان
ءوركيس ءيلي ناحيا نكر ءوفكان
ءوركيس تيلاس، ءولاكيس ءوشان
نتات ءاد ءيكان لجنت ندونيت
يان تين ءيلكمن ءوفاناك راحت
نكني تكزيرتان ءاس نمودا
ترجمتها:
حياتنا مثل المياه
ووسط المياه توجد جزيرة
جزيرة تنمحي فيها الفروق بين الناس
ليست فيها الظلمة ولا الذئاب
إنها جنة الدنيا
من وصلها استراح
وإليها سافرنا( )
بالرغم من الاتجاهات المختلفة التي سار فيها الأدب الأمازيغي المكتوب، والمواضيع التي طرقها فإنه مسكون - في معظم إنتاجاته - بهاجس إيديولوجي يتمثل في التركيز على مبدأ الهوية الأمازيغية. وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام بخصوص آفاقه المستقبلية، خصوصا أن هذه التجربة لم تجد صداها الكافي في المجتمع، ولم تؤسس بعد لتواصل جديد مع المتلقي خارج تقاليد الأدب الشعبي الشفهي.
منشور بمجلة الفرقان (الدار البيضاء).- ع46 (2001).