قراءة: مؤمن الهباء

في توقيت واحد تقريباً صدر بالكويت والقاهرة كتابان مميزان ومتشابهان عن
الشعراء المسيحيين العرب الذين تناولوا في قصائدهم الإسلام ورسوله [، وأكبر
الظن أن التوقيت مقصود لذاته ربما لينبهنا هؤلاء الشعراء إلى المشترك
الثفافي والوطني والتاريخي الطويل الذي يربط بين المسلمين والمسحيين على
الأراضي العربية وعبثية الاقتطاب الطائفي الحادث حالياً، الذي يتحول
أحياناً إلى صراع بغيض تغذيه أطراف خارجية متآمرة. الكتابان يحملان عنوانين
متشابهين؛ الأول: «شعراء النصارى العرب والإسلام»، وهو نصوص شعرية جمعها
ماجد الحكواتي، وصدر عن مؤسسة «جائزة سعود البابطين للإبداع الشعري»
بالكويت.. والثاني: «محمد في شعر النصارى العرب»، وهو أيضاً نصوص شعرية
مصحوبة بدراسات نقدية أعدها وقدمها محمد عبدالشافي القوصي، وصدر عن مكتبة
«مدبولي الصغير» بالقاهرة. وكثير من شعراء وقصائد الكتابين مكرر، إذ يبدو
واضحاً أن الفكرة الكامنة وراءهما واحدة، والهدف واحد، وهو إبراز هذا اللون
من الإبداع الشعري الذي اختفى وكاد يندثر، مع أنه يعكس بيئة متسامحة
ومترابطة تستند إلى مرجعية ثقافية واحدة تقوم على احترام الآخر وإنصافه
وإجلاله، وإعلاء قيم التعايش المشترك بصرف النظر عن اختلاف الدين والعقيدة.
ويكشف الإبداع الشعري المقدم في الكتابين إلى أي مدى عاشت المسيحية
العربية مسالمة، لا تحدوها مطامع سلطوية أو مطامع سياسية، لذلك لم تشعر
أبداً بأنها أقلية دينية متقوقعة على النفس ومنغلقة على الذات، بل اندمجت
مع المجتمع الإسلامي من حولها، واحتفظت المسيحية العربية بخواص تميزها عن
كافة المسيحيين في المجتمعات الأخرى، فكانت أقرب الفئات روحاً وثقافة إلى
المسلمين، ولها صلات حضارية تفوق ما للفئات المسيحية الأخرى، فهيأت الطريق
في قلوب العرب لقبول الدعوة الإسلامية حتى انتصرت على الوثنية.
وينتمي
معظم الشعراء المسيحيين الذين يتناولهم الكتابان إلى سورية ولبنان، وإلى
العصر الحديث، ونظراً للتشابه الكبير في المضمون، ولتداخل الأسماء
والأشعار، فسوف أقدم نماذج مما تضمنه الكتابان إجمالاً من نصوص ومفاجآت.
أول هذه المفاجآت
أن البيتين الجميلين اللذين كان يستفتح بهما الداعية الشهير الشيخ
عبدالحميد كشك يرحمه الله خطبته على المنبر هما للشاعر اللبناني النصراني
«جورج سلستي» يمدح فيهما نبي الإسلام، ويجيد أيما إجادة في البيان الساحر
العذب بقوله:
يا سيدي يا رسول الله معذرة إذا كبا فيك تبياني وتعبيري
ماذا أوفيك من حق وتكرمة وأنت تعلو على ظني وتقديري؟
ويزيد على ذلك:
أشكو إليك دياراً كنت مرشدها ومرشدوها استكانوا
اليوم للنّير وذي فلسطين أولى القبلتين لقد بيعت على يديهم بيع الجآزير
وثاني المفاجآت التي تظهر في الكتابين أن الشعراء النصاري أبدعوا قصائد في مدح النبي [ على نهج «بردة» البوصيري والبارودي وشوقي..
فالشاعر «ميخائيل ويردي» له قصيدة طويلة بنفس العنوان «نهج البردة»، يقول في مطلعها:
أنوار هادي الورى في كعبة الحرم
فاضت على ذكر جيران بذي سلم
وأرسلت نغم التوحيد عن ملك
كالروح منطلق كالزهر مبتسم
ثم يقول:
واجعل هواك رسول الله تلق به يوم الحساب شفيعاً فائق الكرم
هذا رسول الهدى فارشف على ظمأ من ورده العذب
عطفاً شاق كل ظمي كأنما قلبه ينبوع مرحمة
مستبشر جذلان بالنسم يا أيها المصطفى الميمون
طالعه قد أطلع الله منك النور للظلم
وحَّدت ربك لم تشرك به أحداً
ولست تسجد بالإغراء للصنم
ويقول أيضاً:
شرع على أقوم الأركان أسسه للعاملين نبي طاهر الشيم
غذى عقول الورى حتى أتاح لهم عيش النعيم
ونقاهم من الإثم وعلم العرب حتى ساد نسلهم هام الممالك
وارتاحت لعدلهم كأنما الشرع جزء من نفوسهم
فإن هم وعدوا استغنوا عن القسم
يا أزهد الناس في الدنيا وفي يده خزائن الملك والأنصار
كالخدم عجبت كيف تعاني الجوع مرتضياً حظ الفقير ولم تلتذ بالتخم
أقول للمصطفى: أعظم بما ابتدعت آيات برك من خير ومن نعم
لو يتبع الخلق ما خلدت من سنن لم يفتك الجهل والإعواز بالأمم
فيا نبي الهدى حييت من علم بالطهر متسم بالعدل مدعم
أحببت دينك لما قلت: أكرمكم أتقاكمو وتركت الحكم للحكم
وقلت: إني هدى للعاملين ولم تلجأ إلى العنف بل أقنعت بالكلم في دينك السمح
لا جنس ولا وطن فكل فرد أخ يشدو على علم الله أكبر والأكوان فانية
ومن يلُذ بجلال الله لا يضم يا عبقري الورى الأميّ
هل سمعتْ من قبلك العرب وحياً جد منسجم؟
آياتك الغر إعجاز تنزّه عن ندّ وليس دعي الحب كالسدم
كأنما الناس آلات مبعثرة أخرجت منها جميل اللحن
والنظم محمد ردَّ من ضلُّوا وعلمهم حق النساء اللواتي كن كالرمم
يا فخر أمتنا في الأرض قاطبة وسيد المصلحين العرب والعجم

والشاعر مارون عبود له قصيدة طويلة على طريقة «نهج البردة» أيضاً، يسجل
فيها أخبار النبي [ وغزوة «أُحد» و«فتح مكة»، ويعدِّد مفاخر المعلم البطل
وروح الإسلام، وغير ذلك من تاريخ الرسالة والفتوحات.
وهذا الشاعر الكبير مارون عبود سمى ابنه محمداً وقال فيه:
عشت يابني عشت يا خير صبي ولدته أمه
في رجب أمه ما ولدته مسلماً أو مسيحياً
ولكن عربي والنبي العربي المصطفى آية الشرق وفخر العرب
والشاعر اللبناني حليم دموس (1888-1957م)
يتوجه بشعره إلى النبي الأمي مادحاً:
أمحمد والمجد بعض صفاته مجَّدت في تعليمك الأديانا
بعث الجهاد لدن بعثت وجردت أسياف صحبك تفتح البلدانا
ورفعت ذكر الله في أمية وثنية ونفحتها الإيمانا
مرحى لأمي يعلم سفره نبغاء يعرب حكمة وبيانا
إني مسيحي أحب محمداً وأراه في فلك العلا عنوانا
وفي قصيدة أخرى طويلة يقول حلمي دموس:
تغني عروس الشعر باسم محمد وهزى بني الدنيا بسيرة أحمد
لعمرك ما الأديان إلا نوافذ ترى الله منها مقلة المتعبد
فألمح في القرآن عيسى بن مريم وأشهد في الإنجيل روح محمد
وبالرغم من أن د. شبلي شميل لم يكن من أهل الأدب والشعر والدين، فإنه أبدع قصيدة رائعة عن عظمة النبي الأمي يقول فيها:
دع من محمد في سدى قرآنه ما قد نحاه للحمة الغايات
إني وإن أك قد كفرت بدينه هل أكفرن بمحكم الآيات؟
أو ما حوت من ناصع الألفاظ من حِكَم روادع للهوى
وعظات وشرائع لو أنهم عقلوا بها ما قيدوا العمران
بالعادات نِعْم المدير والحكيم وإنه رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحجا رجل السياسة والدها بطل حليف النصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خلب النهى وبسيفه أنحى على الهامات
من دونه الأبطال في كل الورى من سايق أو لاحق أو آتي
وعن أثر الرسول بة الجهل وإزالة الشرك وعبادة الأوثان وعدله وعطفه [color=#000000]وإحسانه على أهل الكتاب، وإقرار مبدأ الشورى..
يقول خليل مطران الملقب بشاعر القطرين:
بأي حلم مبيد الجهل عن ثقة وأي عزم مذل القادة الصيد؟
أعاد ذاك الفتى الأمي أمته شملاً جميعاً من الغر الأماجيد
وزاد في الأرض تمهيداً لدعوته بعهده للمسيحيين والهودِ
وبدئه الحكم بالشورى يتم به ما شاءه الله عن عدل وعن جود
هذا هو الحق والإجماع أيَّده فمن يفنِّده أولى بتفنيد
وللشاعر المهجري إلياس قنصل قصيدة طويلة في مدح النبي العطرة وثباته على المبدأ،[color=#000000] يقول فيها:
إني ذكرتك يا محمد والعِدا يتألبون تألب الذؤبان
ضربت على أبصارهم وقلوبهم ليل الفساد أصابع الشيطان
إني ذكرتك يا محمد مصغياً لحديث عم ناصح حيران
يغريك بالذهب الوفير وكم عنت للفلس من مُهج ومن أذهان
إن كنت تبغي أن تكون مسوّداً جاءت إليك سيادة الأقران
ما المال حين تقيسه برسالة علوية؟ ما المجد؟ ما القمران؟
مثل من الخلق الجليل تركته درساً لكل مناضلٍ متفان
يا من يثير حماستي بكماله عذراً إذا شاهدت ضعف لساني
هي باقة تهدى إليكَ زهورها من خير ما يزهو به بستاني
ومن
أشهر شعراء المهجر الجنوبي يبرز اسم رشيد خوري المعروف بالشاعر القروي..
وقد صاغ قصيدة رائعة بمناسبة المولد النبوي الشريف بعنوان «عيد البرية»،
يقول فيها:
عيد البرية عيد المولد النبوي في المشرقين له والمغربين
دوي عيد النبي ابن عبدالله من طلعت شمس الهداية من قرآنه العلوي
بدا من القفر نوراً للورى وهدى يا للتمدن عمَّ الكون من بدوي!!
يا فاتح الأرض ميداناً لدولته صارت بلادك ميداناً لكل قوي
يا قوم هذا مسيحي يذكركم لا ينهض الشرق إلا حبنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة فبلِّغوه سلام الشاعر القروي
ويقول الشاعر وصفي قرنفلي:
قد يقولون: شاعر نصراني يرسل الحب في كذاب البيان
أوَ عار على فتى يعربي أن تغنى بالسيد العدناني؟
صاح بالشرق واستثار نبيه فتنادوا بالفرس والرومان
أفكنا لولا الرسول سوى العبدان ساءت معيشة العبدان!!
فالتحيات والسلام أبا القاسم تُهدى إليك فى كل آن
والشاعر اللبناني شبلي ملاط يقول:
مَنْ للزمان بمثل فضل محمد وعدالة كعدالة الخطَّاب
رفع الرسول عماد أمة يعرُب وأعزها بالآل والأصحاب
غشت الفتوح وصفقت راياتها في الشرق فوق أباطح وهضاب
وهذا الشاعر المبدع جاك شماس يستهل ديوانه «هواجس في أعماق شاعر» بقصيدة «أوراق اعتمادي» التي يقول في مطلعها:
إني مسيحي أُجِـلُّ محمداً وأُجِـلُّ ضـاداً مهدها الإسلام
وأُجِـلُّ أصحاب الرسول وأهله حيث الصحابة صفوةٌ ومقام
كحَّلت شعري بالعروبة والهوى ولأجل طه تفخر الأقلام
أودعت روحي في هيام محمد دانت له الأعراب والأعجام
وأختتم
هذه الباقة ببعض أبيات من قصيدة «دين الإخاء» للشاعر السوري عطا الله
مغامس الذي درس في مصر، ويبدو أنها قيلت لتعالج ظروفنا الحالية التي اهتزت
فيها الوحدة الوطنية:
يا مسلمين ويا نصارى يعرُب عودوا إلى عهد الصفاء
وسلموا أنتم جناحا أمة منكوبة فحذار ثم حذار أن تتقسموا
إن الوداد تفاهم ما بينكم فإذا تنابذتم فتلك جهنم