مع هذا العصر المتسارع ، تفتح في كل يوم أبواب لمعارف جديدة يتم من خلالها الحصول على الكثير من المعلومات التي تتعلق بكل ما حولنا . وعلى الرغم من سعي الإنسان المستمر لفهم الألغاز الطبيعة إلا أنه ما يزال إلى الآن في خطواته الأولى للوصول إلى تفسير صحيح لكل ما حوله . وان اهتمامه هذا لم ينسه التعرف على دواخله ، بحيث يكسر أقفال أسراره البدنية والنفسية في محاولة للوصول إلى مبتغاه من المعرفة .
وبالرغم من ذلك فالكثير مما يبحث عنه ما زال مجهولا ومحاط بالكثير من العتمة التي يستحيل معها التعرف وتميز الأشياء . وهنا نحاول أن نطرق باب أسرار إحدى حواسنا الخمسة التي مازالت مستعصية على الفهم على الرغم من الشوط الطويل الذي قطع في تفسيرها تشريحيا ووظيفيا ، وقد جاء الدور هذه المرة لتفسيرها جينيا، للتعرف على أنواع الجينات الداخلة في وظائف هذه الحاسة ونوع البروتينات المنتجة وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي كان متعارفا عليها في الماضي .
لغز حاسة الشم
وهب الله الإنسان الحواس الخمسة التي تمكنه من إدراك ما حوله . ومن قدرة الله سبحانه وتعإلى أن جعل لكل حاسة منها آلية عمل تختلف عن غيرها ، فلكل منها عضو وخلايا وأعصاب ومستقبلات خاصة ، تميز فيما بينها . وموقع ارتباط خاص بالدماغ لا يشارك الحاسة شيء فيه ، ولا تتأثر الحواس الأخرى في حالة إصابة موقع إحداها في الدماغ ، مع وجود ارتباط بين هذه الحواس .
تعتبر حاسة الشم من اكثر حواسنا غرابة واستعصاء على الفهم ، فهذه الحاسة التي صنفت كحاسة كيميائية ، أي أنها تعتمد في عملها على تأثير المواد الكيميائية . لم يستطع العلماء إلى الآن تفسير قدرتها على التمييز بين الروائح المختلفة التي يقدر أن الإنسان يستطيع تميز 10000 نوع منها . لكن مع ذلك فالباحثون يدينون للخلايا التي تشارك في عملية الشم بالفضل في تفسير بعض ألغاز هذه الحاسة ، إلا أنه ما يزال هناك الكثير من الأسرار التي يحاول الباحثون تجاوزها للوصول إلى الفهم الكامل لآلية عملها ، والتي بحلها سيتمكن الباحثون من إيجاد سبب امتلاك الكثير من الحيوانات لحاسة شم قوية تعادل 20 – 50 ضعف قوة حاسة الشم عند الإنسان الطبيعي ، بالإضافة إلى محاولة علاج المرضى الذين يعانون من اضطراب أو فقدان حاسة الشم ، وأخيرا اختراع أجهزة تحاكي الأنف في قدراته على الشم وتميز الروائح .
فعملية الشم تبدأ مع دخول الجزيئات المتطايرة الدقيقة جدا ( اقل من 300 حجم جزيئي ) إلى فتحة الأنف ، ثم وصولها إلى منطقة تدعى المنطقة الشمية ، حيث تذوب هذه الجزيئات في الطبقة المخاطية الرقيقة المحيطة بهذه المنطقة والتي تفرز من قبل غدد بومان Bowman’s glands ، ثم تقوم بروتينات خاصة موجودة في المنطقة المخاطية بنقلها إلى المستقبلات الشمية Olfactory receptors ، التي يقدر عددها بحوالي عشرة ملايين مستقبل ، والتي تقع على سطوح بروزات دقيقة جدا تدعى الأهداب Cilia ، وتتصل هذه المستقبلات بدورها بالأعصاب الشمية التي تتجمع في منطقة واحدة تدعى البصلة الشمية Olfactory bulb ، التي ترسل هذه الأعصاب إلى منطقة الاميكلاندا amygdala في الدماغ حيث يتم تحليل الرائحة والتعرف عليها . يدخل ضمن عملية الشم هذه عدد كبير من العمليات الكيميائية والجينية التي ما زال العلم الحديث عاجزا عن فك طلاسمها ومعرفة أسرارها .
ولابد هنا من الإشارة إلى بعض الأمور التي لديها علاقة مباشرة بحاسة الشم في محاولة لفك هذه الطلاسم ، منها الصفات الخاصة التي يجب أن تمتلكها جزيئات الرائحة ، فهذه الجزيئات يجب أن تكون دقيقة جدا بحيث لا تتجاوز 300 حجم جزيئي ، ويجب أن تكون قليلة القطبية ، وقابلة للذوبان في الماء والدهون . وشيء آخر مهم يجب عدم إغفاله وهو أن مساحة المنطقة الشمية عند الإنسان والموجودة في كل منخار لا يتعدى 5 سم مربع بينما عند القطط تصل إلى 25 سم مربع وعند الكلاب إلى 50 سم مربع . ولون هذه المنطقة عند الإنسان يميل إلى اللون الأصفر بينما يكون لونها بني عند الكلاب. ويرجع العلماء ذلك إلى كثافة المستقبلات والأعصاب عند الكلاب في هذه المنطقة . يضاف إلى ذلك امتلاك الأعصاب الشمية لصفة تميزها عن جميع أنواع الأعصاب الأخرى وهي وجود خلايا جذعية تحتها تجعلها تتجدد كل 40 يوما .
بالإضافة إلى كل ما سبق فقد اكتشف العلماء في السنوات الأخيرة بروتينات توجد في المنطقة المخاطية تلعب دورا مهما في عملية الشم ، تعمل على :
نقل الجزيئات الذائبة في السائل المخاطي إلى المستقبلات
الارتباط بالمستقبلات التي تنقل الرائحة بشكل إشارات عصبية إلى الدماغ .
تخليص المنطقة الشمية من الجزيئات القديمة عن طريق تحطيمها ، لكي تعطي فرصة للجزيئات الجديدة للوصول إلى المستقبلات .
وقاية المستقبلات من زيادة تركيز جزيئات الرائحة عن الحد الطبيعي .
ومع هذا الإيجاز البسيط الذي يعتبر شيئا ضئيلا جدا مما عرفه العلماء ، إلا أن هناك أمور كثيرة لم يتسنى للعلماء فهمها عن عملية الشم وكيف تتم داخل هذه التركيبة من البروتينات والمستقبلات والأعصاب؟ ، وكيف نميز بواسطة هذه الآلية بين الروائح المختلفة؟ ، بالإضافة إلى وجود نواقل عصبية كثيرة تشترك في هذه العملية لم يحدد نوعها إلى الآن .
وقد أضاف هذا عبئا كبيرا على الطب ، حيث يعاني الأطباء من عدم قدرتهم على معالجة فاقدي حاسة الشم ، وعلى الرغم من كون هذه الحالة غير مؤثرة بشكل كبير على الحياة ، إلا أن الباحثون قد لاحظوا أن فاقدي القدرة على الشم يصابون بحالة من الاكتئاب وتغير في طبيعة حياتهم . وذلك بسبب وجود علاقة كبيرة بين حاسة الشم والعواطف ، والمزاج ، والذاكرة ، وجهاز المناعة ، والهرمونات في الجسم ، ووصل البعض إلى القول أن هناك علاقة بين حاسة الشم والعلاقات الاجتماعية .
وقد ظهرت نظريات عديدة في هذا المجال ، إلا أنها لم تعطي تفسيرا كاملا لعملية الشم ، أو فشلت في تفسير حالات معينة . لذلك اتجه الباحثون الآن إلى التقنيات الجينية من اجل حل هذه المسألة ، وقد زودتنا هذه التقنيات الحديثة بمعلومات جديدة كانت خافية عن الباحثين ، إلا أنه وبسبب كون هذه التقنيات ما زالت في بداياتها ، فالفهم الكامل لمثل هذه الأمور ما زال بعيدا ، أو كما يحلو للبعض القول : " نحن في الخطوات الأولى من الألف ميل" .
بداية حل اللغز
يقوم عالم الأعصاب لوردس كاتز قبل بداية محاضرته في كلية الطب في جامعة ديوك في ولاية كارولينا الأمريكية بفتح قنينة تحتوي على مادة ذات رائحة لاذعة جدا . الكثير من طلابه يغادرون مقاعدهم نتيجة عدم تحملهم للرائحة ، بينما لا يتأثر كاتز لأنه لا يشم هذه الرائحة . تأتي مثل هذه الاختلافات في حاسة الشم من التباين في المستقبلات الشمية ، التي هي عبارة عن بروتينات موجودة على سطح الأعصاب الحسية التي تحدد طبيعة الرائحة الكيميائية المتطايرة التي تصل إلى مجارينا التنفسية . يوجد لدينا عدد كبير من هذه المستقبلات المميزة ، والتي من خلالها نستطيع تميز عدد كبير من الروائح والتي قد يصل عددها إلى 10000 نوع مختلف. لكن من دون فهم كامل لكيفية تشفير هذه المعلومات بواسطة المستقبلات الشمية .