وقد ألَّف العلماء في علم القراءات تآليف عدة ، وكان أبو عبيد - القاسم بن سلاَّم - من أوائل من قام بالتأليف في هذا العلم ، حيث ألَّف كتاب "القراءات" جمع فيه خمسة وعشرين قارئاً . واقتصر ابن مجاهد على جمع القرَّاء السبع فقط . وكتب مكي بن أبي طالب كتاب "التذكرة" .
ومن الكتب المهمة في هذا العلم كتاب "حرز الأماني ووجه التهاني" لـ القاسم بن فيرة ، وهو عبارة عن نظم شعري لكل ما يتعلق بالقرَّاء والقراءات ، ويُعرف هذا النظم بـ "الشاطبية" وقد وصفها الذهبي بقوله : " قد سارت الركبان بقصيدته ، وحفظها خَلْق كثير، فلقد أبدع وأوجز وسهَّل الصعب" .
ومن الكتب المعتمدة في علم القراءات كتاب " النشر في القراءات العشر" للإمام الجزري ، وهو من أجمع ما كُتب في هذا الموضوع ، وقد وضعت عليه شروح كثيرة ، وله نظم شعري بعنوان "طيِّبة النشر" .
إن نسبة القراءات السبعة إلى القراء السبعة إنما هي نسبة اختيار وشهرة ، لا رأي وشهوة ، بل اتباع للنقل والأثر ، وإن القراءات مبنية على التلقي والرواية ، لا على الرأي والاجتهاد ، وإن جميع القراءات التي وصلت إلينا بطريق صحيح ، متواتر أو مشهور ، منزلة من عند الله تعالى ، وموحى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك وجدنا أهل العلم يحذرون من تلقي القرآن من غير طريق التلقي والسماع والمشافهة .
وأما ما يروى بطريق الآحاد من القراءات المنسوبة إلى النبِى صلى الله عليه وسلم أو إلى بعض الصحابة أو التابعين فليس من القرآن أصلاً , بل يدور أمره بين أن يكون تفسيرًا سمع منهم فِى أثناء تعليمهم القرآن ثم دون فِى عداد القراءة , وبين أن يكون سهواً جرى على لسان التالِى وظنه السامع قراءة ولمثل ذلك أشار مالك بن أنس إلى نافع القارئ بالا يؤم القوم حينما استشاره فِى ذلك قائلاً له: إنك بارع فِى القراءات فإذا سهوت فِى القراءة أثناء الصلاة ربما يظن بهذا السهو أنه قراءة مروية فيتلقى منك هذا السهو كقراءة . وتلك القراءات الشواذ دونها العلماء فِى كتب خاصة , منها الجارِى مجرى التفسير , ومنها السهو المحض .
قال العلماء : المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها ؛ كقراءة عائشة و حفصة قوله تعالى :{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة:238) قرأتا: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) وقراءة ابن مسعود قوله تعالى:{فاقطعوا أيديهما}(المائدة:38) قرأها: (فاقطعوا أيمانهما) وقراءة جابر قوله تعالى:{فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}(النور:33) قرأها: (من بعد إكراههن لهن غفور رحيم). فهذه الحروف - القراءات - وما شابهها صارت مفسِّرة للقرآن .
وتوجد قراءات تروى بأسانيد ملفقة كاذبة وحقها أن لا تعد من القراءات بالمرة , والفرق بينها شأن العلماء الإختصاصيين بحجج ناهضة معلومة لأهلها قال أبو عبيد فِى "فضائل القرءان" عند ذكر ما جمع فِى عهد عثمان تحت إشراف جمهرة الصحابة : "وهو الذِى يحكم بالردة على من أنكر منه شيئا" ثم قال عند الكلام على الشواذ والألفاظ الواردة بغير طريق التواتر "فهذه الحروف وأشياء لها كثيرة قد صارت مفسرة للقرءان , وقد كان يروى مثل هذا عن بعض التابعين فِى التفسير فيستحسن ذلك , فكيف إذا روى عن كبار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم صار فِى نفس القراءة فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى وأدنى ما يستنبط من علم هذه الحروف معرفة صحة التأويل على أنها من العلم الذِى لا يعرف العامة فضله , وإنما يعرف ذلك العلماء" .
وظاهر جدًا كون ما يروى عن أمثال ابن مسعود وأبِى بن كعب وابن عباس رضِى الله عنهم من الألفاظ المخالفة للمتواتر تفسيرًا على الوجه الذِى سبق بيانه . وقد تواترت عن ابن مسعود قراءته بطريق أصحابه من أهل الكوفة , وقد تلقاها عاصم عن زر بن حبيش عنه رضِى الله عنه . وهِى التِى يرويها أبو بكر بن عياش عن عاصم , وتواترها البالغ مما لا يتناطح فيه , وليس فيها تلك الألفاظ الشاذة . ومن زعم أنه لم يكن فِى مصحفه الفاتحة والمعوذتان أو أنه كان يحك المعوذتين فكاذب قصدًا أو واهم من غير قصد والمعوذتان موجودتان فِى قراءة ابن مسعود المتواترة عنه بطريق أصحابه . وكذلك الفاتحة , وقراءته هِى قراءة عاصم المتواترة التِى يسمعها المسلمون فِى مشارق الأرض ومغاربها فِى كل حين وفِى كل الطبقات . وأنى يناهض خبر الآحاد الرواية المتواترة ؛ على أن العامة يحفظون عن ظهر قلب الفاتحة والمعوذتين لصلواتهم وتعاويذهم فِى عهده , فلا مانع من أن يكون إستغنى عن كتابتها لكونها غير مظنة للنسيان , ولا مانع أيضًا من أن يكون يحك إسم المعوذتين دون المسمى على طريقته المعلومة فِى تجويد القرءان من أسماء السور وعدد ءاياتها وأعشارها وغير ذلك مما لا يدخل فِى التنزيل . وقد أجاد ابن حزم الرد على تقولات المتقولين فِى هذا الصدد فِى كثير من مؤلفاته .
والعناية البالغة من الأمة بإستظهار القرءان وحفظه من يوم النزول إلى اليوم وإلى قيام الساعة لا تحول دون وهم واهم فِى لفظ وغلط غالط فِى كلمة لأنه ليس فِى طبيعة البشر أن يكون جميع أفراده سواء فِى الحفظ والعلم والفهم لكن الأوهام والأغلاط تذوب أمام ضبط الجماهير وحفظهم فِى كل طبقة ويستأنس أهل العلم بألفاظ تروى فِى صدد القراءة بتمييزهم بين ما هو من قبيل التفسير وبين ما هو سهو بحت وبين ما هو خبر صرف ظنه بعض مغفلِى الرواة ءاية بين ما هو ملفق محض, فيجعلون لكل منها حكمه الخاص به .
ونرى فِى المدة الأخيرة إهتمامًا خاصًا لمستشرقِى الغرب ينشر مؤلفات علماء الإسلام الأقدمين مما يتعلق بالقرآن الكريم وعلومه من كتب القراءة وكتب الرسم وشواذ القراءات وكتب الطبقات , بل يواصلون سعيهم فِى ذلك وفِى نشر ما للأقدمين من المؤلفات فِى الحديث والفقه واللغة . إلى غير ذلك من المشرقيات . ومسعى أغلبيتهم ينم عن قصدهم لإحياء عهد الصليبيين بطريقة أخرى فِى الحملات الممتلئة تعصبًا وجهًلا نحو النور الوضاء الذِى أشرق من القرآن الكريم على هذه الأرض المظلمة حتى إستنارت البصائر بذلك النور الوهاج . فدخل الناس فِى دين الله أفواجًا , فتبدلت الأرض غير الأرض . وغاية هذا الفريق مكشوفة جدًا مهما تظاهروا بمظهر البحث العلمِى البرئ كذبًا وزورًا وخداعًا .
وبتلك الإلمامة اليسيرة فِى تاريخ القرءان الكريم يظهر أن محاولتهم هذه ما هِى إلا محاولة خائبة منكوسة , وأنهم لو إبتغوا نفقًا فِى الأرض أو سلمًا فِى السماء ليأتوا بما له مساس بكتاب الله المنزل على حبيبه المرسل_ صلوات الله عليه وعلى سائر الأنبياء_ من قرب أو بعد لما وجدوا إلى ذلك أدنى سبيل .