لماذا التدبر في القرآن؟ هكذا يتساءل البعض، ويضيفون: إننا نقرأ القرآن، ونستمع إلى تلاوته كل صباح ومساء، أفلا يكفينا هذا؟ والجواب:
1. التدبر في القرآن هو الطريق للاستفادة من آياته والتأثر بها.
إن القراءة الميتة للقرآن لا تعني أكثر من كلمات يرددها اللسان دون أن تؤثر في واقع الفرد التأثير المطلوب، أما "التلاوة الواعية" فهي تتجاوز اللسان لكي تنفذ إلى القلب، فتهزه، وتأثر فيه.
لقد كان أولياء الله العارفون يتلون القرآن بوعي، فكانت جلودهم تقشعر، وقلوبهم ترتجف حين يقرأون آية، بل ربما كانوا يصعقون لعظم وقع الآية في نفوسهم. لقد تلا الإمام الصادق (عليه السلام) آية في صلاته ورددها عدة مرات، فصعق صعقة، ووقع مغشيا عليه، ولما أفاق سئل عن ذلك، فقال: "لقد كررتها حتى كأني سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت لها جسمي، لمعاينة قدرته." وكانت الآية ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإَيَّاكَ نَسْتَعِينُ)).
بل إن التدبر لحظاتٌ في القرآن الكريم كان منعطفا تغييراً كبيراً في حياة الكثيرين، فهذا الفضيل بن عياض كان في بداية حياته مجرماً خطيراً، وكان ذكر اسمه كافياً لإثارة الرعب في القلوب. لقد كان يقطع الطريق على القوافل، ويسلب المسافرين ما يملكون.
وذات يوم وقعت نظراته على فتاة جميلة، فصمم في نفسه أمراً، وفي نفس تلك الليلة كان يتسلق جدار ذلك البيت الذي تسكن فيه الفتاة، وهو ينوي الاعتداء عليها واغتصابها، وفي هذه الأثناء، تناهى إلى مسامعه صوت يتلو هذه الآية الكريمة: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه))، فأخذ يفكر في الآية بضع ثوان، وأخذ يردد مع نفسه: "يا رب، بلى قد آن."[sup]1[/sup] ثم هبط من الجدار، وتولى بوجهه شطر المسجد الحرام، فاعتكف فيه إلى أن مات.
إن تدبر هذا الرجل في آية واحدة حوّله من مجرم متمرس بالجريمة إلى معتكف في محراب العبادة، فكيف إذا تدبر الإنسان في كل القرآن؟
2. التدبر في القرآن هو الطريق لفهم قيم القرآن وأفكاره ومبادئه كما أنزلها الله سبحانه.
إن هناك خيارات صعبة وعديدة تطرح أمام الفرد وأمام الأمة كل يوم، ولاختيار الطريق السليم بين الخيارات لابد من الرجوع إلى القرآن، والتدبر في آياته. ومن هنا يقول الله سبحانه: ((إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم))[sup]2[/sup]، ومن هنا - أيضا - أطلق القرآن على نفسه اسم "الفرقان"، ذلك لأنه يفصل ويفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال، ولكن لمن؟ الجواب: لمن يفهم آياته، ويتدبر فيها.
3. هنالك مشاكل كثيرة يصطدم بها الإنسان في حياته - سواء المشاكل الفردية التي لا تتعدى إطار ذاته أو المشاكل الاجتماعية التي تصيب الجميع، والقراءة الواعية للقرآن الكريم، والتدبر في آياته يقومان بدور مزدوج في هذا المجال، فهما يقومان - من جانب - بتطهير ما علق في نفس الإنسان من سلبيات - ومن هنا يقول الله سبحانه:
((قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَة مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُور))[sup]3[/sup]
((وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ))[sup]4[/sup]
ويقومان - من جانب آخر - بوضع البرامج السليمة للخروج بحل ناجع لهذه المشاكل.
4. وأخيراً، فإن التدبر في القرآن هو الطريق للعمل بما جاء فيه، وذلك لأن العمل بالقرآن يتوقف على فهمه، وفهم القرآن لا يمكن إلا بالتدبر في آياته. ومن هنا فإن الذين لا يتدبرون القرآن ربما يفوتهم تطبيق الكثير من مبادئ الدين في حياتهم العملية وهم لا يشعرون.