أقوال العلماء
قال القرطبي رحمه الله معلقاً على الحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي": (فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في الرابعة فقط، وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب، ورُوي عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في السودان13، وقد كتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ فدل قول مالك هذا على أن برهما متساوٍ عنده، وقد سئل الليث14 عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وحديث أبي هريرة – السابق – يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف، وقد زعم المحاسبي في كتاب "الرعاية" له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع، على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم).15
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة السابق في الفتح16: (قال ابن بَطَّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم، وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين"، فسوى بينهما في الوصية، وخص الأم بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة؛ وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول، قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحاً في ذلك، فقد ذكره ابن بطال، فقال: سئل مالك: طلبني أبي، فمنعتني أمي؛ قال: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال، وليست الدلالة على ذلك واضحة، قال: وسئل الليث يعني عن هذه المسألة بعينها، فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر؛ وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين، وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل بن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد"، وابن ماجة، وصححه الحاكم، ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب"، كذا وقع في حديث بَهْز بن حكيم).
وقال فضل الله الجيلاني في توضيح الأدب المفرد للبخاري17: (الأم مقدمة في الإجماع في البر على الأب، وأن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وذلك لتحمل المشاق في الحمل والوضع حتى تكاد تموت، ولا أقل من أن تذوقه في كل وضع إذا ضربها الطلق، ثم المحنة زمن الرضاع إلى أن يكبر الولد ويستغني عن خدمتها، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في الإنفاق والتربية وأنواع من المؤنة والخدمة – كذا ذكره السيوطي – أخذ ذلك من تكرار حق الأم، والأظهر أن يكون تأكيداً ومبالغة في رعاية حق الأم، وذلك لتهاون أكثر الناس في حق الأم بالنسبة إلى الأب، لأن أمر الأم كله في البيت تحت الستور ولا يطلع عليه الناس، فيجترئ الناس على عقوقها أكثر من عقوق الوالد حياء من الناس، وكذا قوته تزجر عن الجرأة عليه، وضعفها يحمل الدنيء على الإساءة إليها، ولا يبعد أن الشريعة بالغت في البر بها أكثر من البر بالأب مواساة لها ومراعاة لضعف قلوب النساء وشفقة على الولد، مع أن الأب ليس أنقص حقاً من حقوقها، لأن الأم للين طبعها وضعف بنيتها لا تستطيع أحياناً أن تتحمل إباء وسوء خلقه فتعجل أن تغضب، فتسرع بالدعاء عليه، والمذكور في كتب الفقه أن حق الوالد أعظم من حق الوالدة وبرها أوجب).
قال ابن قتيبة رحمه الله: (خاصمت أم عوف – امرأة أبي الأسود الدؤلي – أبا الأسود إلى زياد في ولد منه، قال أبو الأسود: أنا أحق بالولد منها، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه؛ فقالت أم عوف: وضعته شهوة، ووضعتُه كرهاً، وحملتَه خفاً، وحملتُ ثقلاً؛ فقال زياد: صدقت، أنت أحق به؛ فدفعه إليها).18
قلت: هذا في الحضانة، فالولد للأم دون السابعة، والبنت إلى الزواج، ما لم تتزوج الأم، أويكون هناك مانع.
تقديم الأم في البر يكون في الإنفاق، والرعاية، والعطف، فإذا قصُرَت يَدُ الأبناء عن الإنفاق على الوالدين جميعاً تقدم الأم على الأب، وكذلك في زكاة الفطر إن لم يتمكن الابن من إخراج الزكاة عن أبويه الفقيرين أخرج عن أمه، وهكذا، وكذلك الأمر في الرعاية والعطف، أما في التعظيم والاحترام فيقدم الأب على الأم، والله أعلم.
قال فضل الله الجيلاني: (قيل إذا تعذر مراعاة حق الوالدين جميعاً بأن يتأذى أحدهما بمراعاة الآخر يترجح حق الأم فيما يرجع إلى الخدمة والإنعام، حتى لو دخلا عليه يقوم للأب، ولو سألا منه شيئاً يبدأ في الإعطاء بالأم، كما في "منبع الآداب"، قال الفقهاء: تقدم الأم على الأب في النفقة إذا لم يكن عند الولد إلا كفاية أحدهما، لكثرة تعبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته، وخدمته، ومعالجة أوساخه، وتأنيسه في مرضه، وغير ذلك – روح المعاني بتصرف).19