الإكثار من ذكر الله عز وجل واللهج به في كل وقت وحين
قال تعالى: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ"13 وقال: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى"14.
فالمداومةعلى ذكر الله ضمان أن يذكره ربه ولا ينساه قال تعالى محذراً لنا من حال أهل الغفلة: "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"15.
ولهذا عندما نادى يونس عليه السلام ربه وهو في تلك الحال: "لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"16 قالت الملائكة ـ وهو أعلم بما نادى ـ: يا رب صوت معروف من عبد معروف.
فالذاكر لربه محسن لنفسه أولاً ومحسن وشاكر لربه ثانياً، والله سبحانه وتعالى يفرج عن المحسنين في الدنيا والآخرة فكما أن المحسنين يعيشون في سعة وانشراح صدر وقرة عين في الدنيا مهما ضاقت بهم الظروف وحلت بهم الكوارث والمحن، نحجد المسيئين المقصرين في حقوق ربهم وأنفسهم أكثر الناس شقاء وبلاءً مع ما يعيشون فيه من النعيم، ويتقلبون فيه من الترف، ولا أدل على ذلك من كثرة وتفشي جريمة الانتحار عند الكفار.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وما يجازى به المسيء: من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازته، وغمه، وهمه، وحزنه، وخوفه. وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق: عقوبات عاجلة: ونار دنيوية، وجهنم حاضرة.
والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ثواب عاجل، وجنة لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة.
ثم مثل لذلك:
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة17 من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: (ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري. إن رحت فهي معي لا تفارقني. إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة).
وكان يقول في محبسه في القلعة18: (لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة)، أو قال: (ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير). ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). ما شاء الله.
وقال لي مرة: (المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه).
ولما دخل إلى القلعة ـ السجن ـ وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: "فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ"19.
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط. مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها. ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق. وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحههم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكان إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض آتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفز قواهم لطلبها، والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى، ومعرفته، وذكره. أو نحوهذا.
وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
إلى أن قال:
فمحبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته. هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم20، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين)21.
↑