الأحاديث التي تنهى عن الشرب قائماً
خَرَّج مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة، باب في الشرب قائماً، عدداً من الأحاديث تنهى وتزجر عن الشرب قائماً، وهي:
1. عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً".
2. وفي رواية عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يشرب الرجل قائماً"؛ قال قتادة: فقلنا: فالأكل؛ فقال: ذاك أشر وأخبث.
3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "زجر عن الشرب قائماً".
4. وفي رواية عنه: "نهى عن الشرب قائماً".
5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقئ".
الأحاديث التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه شربوا في بعض الأحيان قياماً
خَرَّج مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة، باب الشرب قائماً وغيره، كذلك عدداً من الأحاديث تبين شربه صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه قياماً، وهي:
1. عن ابن عباس قال: "سقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم".
2. وفي رواية عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم من دلو منها وهو قائم".
3. وعن ابن عباس كذلك قال: "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب قائماً، واستسقى وهو عند البيت"، وفي رواية: فحلف عكرمة1: "ما كان يومئذ إلا على بعير".
4. وأخرج مالك في الموطأ2 أنه بلغه أن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليَّ بن أبي طالب كانوا يشربون قياماً.
5. وقال مالك عن ابن شهاب: أن عائشة أم المؤمنين وسعد بن أبي وقاص كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأساً.
6. وقال مالك عن أبي جعفر القاري أنه قال: "رأيت عبد الله بن عمر يشرب قائماً".
7. وعن ابن عمر قال: "كنا على عهد رسول الله نأكل ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام".3
8. وروى مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: "أنه كان يشرب قائماً".
9. وفي البخاري أن علياً شرب قائماً وقال: "رأيتُ رسول الله فعل كما رأيتموني أفعل".
10. روى الترمذي 4 عن عبد الرحمن بن أبي عمر عن جدته كبشة قالت: "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قربة معلقة، فشرب قائماً، فقمت إلى فيها فقطعته".
11. وروى أحمد في مسنده عن أم سُليم قالت: "دخل عليَّ رسول الله، وفي البيت قربة معلقة، فشرب منها وهو قائم، فقطعت فاها، فإنه لعندي".
مذاهب أهل العلم في التوفيق بين أحاديث النهي والزجر عن الشرب قائماً، وبين شرب الرسول صلى الله عليه وسلم ونفر من صحبه الكرام قياماً
والمذاهب هي:
1. أن شربه قائماً وشرب أصحابه لبيان الجواز، وأن النهي عن الشرب قائماً للكراهة.
2. أن شربه قائماً كان لعذر.
3. أن شربه قائماً ناسخ لنهيه وزجره عن ذلك.
4. ادعاء البعض ضعف الأحاديث التي تأمر بالاستقاء.
أقوال العلماء
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم5 معلقاً على الأحاديث السابقة وجامعاً بينها: (أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالاً باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعِّف بعضها، وادعى فيها دعاوى باطلة لا غرض لنا في ذكرها.
إلى أن قال: وليس في هذه الأحاديث بحمد الله تعالى إشكال، ولا فيها ضعف، بل كلها صحيحة، والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائماً فبيان للجواز، فلا إشكال ولا تعارض، وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه، وأما من زعم نسخاً أوغيره فقد غلط غلطاً فاحشاً، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث لو ثبت التاريخ، وأنى له بذلك؟ والله أعلم؛ فإن قيل: كيف يكون الشرب قائماً مكروهاً وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً للجواز لا يكون مكروهاً، بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم.
إلى أن قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن نسي فليستقئ"، فمحمول على الاستحباب والندب، فيستحب لمن شرب قائماً أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب؛ وأما قول القاضي عياض: لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسياً ليس عليه أن يتقيأه، فأشار بذلك إلى ضعف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع كونها مستحبة.
إلى أن قال: ثم اعلم أنه يستحب الاستقاءة لمن شرب قائماً ناسياً أومتعمداً، وذكر الناسي في الحديث ليس المراد به أن القاصد يخالفه، بل للتنبيه به على غيره بطريق الأولى، لأنه إذا أمر به الناسي وهو غير مخاطب فالعامد المكلف المخاطب أولى).
وقال ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود6 موفقاً بين هذه الأحاديث: (فاختلف في هذه الأحاديث، فقوم سلكوا فيها مسلك النسخ، وقالوا: آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرب قائماً، كما شرب في حجة الوداع؛ وقالت طائفة: في ثبوت النسخ بذلك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعله شرب قائماً لعذر، وقد حلف عكرمة أنه كان حينئذ راكباً، وحديث عليّ قصة عين لا عموم لها.
إلى أن قال معلقاً على ما روته كبشة وأم سُليم: فدلت هذه الوقائع على أن الشرب منها قائماً كان لحاجة لكون القربة معلقة، وكذلك شربه من زمزم أيضاً لعله لم يتمكن من القعود لضيق الموضع، أوالزحام، أوغيرها، والجملة فالنسخ لا يثبت بمثل ذلك.
أما حديث7 ابن عمر فلا يدل على نسخ إلا بعد ثلاثة أمور، مقاومة لأحاديث النهي في الصحة، وبلوغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأخره عن أحاديث النهي، وبعد ذلك فهو حكاية فعل لا عموم لها، فإثبات النسخ في هذا عَسِرٌ).
وقال ابن القيم عن هديه في الشرب: (وكان أكثر شربه قاعداً، بل زجر عن الشرب قائماً، وشرب مرة قائماً، فقيل: هذا نسخ لهديه، وقيل: بل فعله لبيان جواز الأمرين، والذي يظهر فيه – والله أعلم – أنها واقعة عين شرب فيها قائماً لعذر، وسياق القصة يدل عليه، فإنه أتى زمزم وهم يستقون منها، فأخذ الدلو وشرب قائماً.
والصحيح في هذه المسألة النهي عن الشرب قائماً، وجوازه لعذر يمنع من القعود، وبهذا تجمع أحاديث الباب، والله أعلم).8
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح9: (وسلك العلماء في ذلك مسالك:
أحدها: الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي.
الثاني: دعوى نسخ أحاديث النهي.
الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل.
ثم قال: وسلك آخرون في الجمع بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث البيان على جوازه، وهي طريقة الخطابي وابن بَطَّال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيراً، فقال: إذا ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري، وأيده بأنه لو كان جائزاً ثم حرمه، أوكان حراماً ثم جوزه، لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بياناً واضحاً، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا).