ذهبوا أجمعوا أن جميع ما أسكر كثيره من الشراب فقليله حرام، كتحريم الخمر. وقال بعضهم: بل هو الخمر بعينها، ولم يفرقوا بين ما طبخ وبين ما نقع. وقضوا عليه كله أنه حرام. وذهبوا من الأثر إلى حديثٍ رواه عبد الله ابن قتيبة عن محمد بن خالد بن خداش، عن أبيه، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام وكل مسكر خمر". وحديثٍ رواه ابن قتيبة عن إسحاق بن راهويه، عن المعتمر بن سليمان، عن ميمون بن مهدي، عن أبي عثمان الأنصاري، عن القاسم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام".والفرق: ستة عشر رطلاً. وللعرب أربعة مكاييل مشهورة: فأصغرها المد، وهو رطل وثلث في قول الحجازيين، ورطلان في قول العراقيين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد.والصاع: أربعة أمداد، خمسة أرطال وثلث، في قول الحجازيين، وثمانية أرطال في قول العراقيين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع.والقسط وهو رطلان وثلثان، في قول الناس جميعاً. والفرق، وهو ستة عشر رطلاً، ستة أقساط في قول الناس جميعاً.
وذهبوا إلى حديثٍ رواه ابن قتيبة عن محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة، عن اعائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل شراب أسكر فهو حرام"، مع أشباهٍ لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها، إلا أن هذه أغلظها في التحريم، وأبعدها من حيلة المتأول.قالوا: والشاهد على ذلك من النظر: أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجنايتها على شاربها، ولأنها رجس، كما قال الله.
ثم ذكروا من جنايات الخمر ما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا، في باب آفات الخمر وجناياتها.ثم قالوا: فالعلة التي لها حرمت الخمر من الإسكار، ومن الصداع والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، قائمة بعينها في النبيذ كله المسكر. فسبيله الخمر، لا فرق بينهما في الدليل الواضح، والقياس الصحيح. كما أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا وقعت في السمن، إنه كان جامداً ألقيت وألقي ما حولها، وإن كان ذائباً أريق السمن. فحملت العلماء الزيت وغيره محمل السمن، بالدليل الواضح.وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى السمن خاصة بنجس الفأرة، وإنما سئل عن الفأرة تقع في السمن فأفتى به، فقاس العلماء الزيت وغيره بالسمن. وكما أمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار، فعلم أهل العلم أنه إنما أراد صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الأحجار للتنقية من الأذى، فأجازوا كل ما أنقى: من الخزف، والخرق، وغير ذلك، وحملوه محمل ثلاثة الأحجار. ولما حرمت الخمر لعلةٍ قائمة في النبيذ المسكر حمل النبيذ محمل الخمر في التحريم.
قالوا: ووجدناهم يقولون لمن غلب عليه غنث النفس وصداع الرأس من الخمر: مخمور وبه خمار. ويقولون مثل ذلك في شارب النبيذ، ولا يقولون: منبوذ، ولا به نباذ. والخمار مأخود من الخمر، كما يقال: الكباد في وجع الكبد، والصدار في وجع الصدر.وذهبوا في تحريم النبيذ إلى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، "أنه نهى عن أن ينبذ في الدباء والمزفت"، وقالوا: لمن أجاز قليل ما أسكر كثيره: إنه ليس بين شارب المسكر وموافقته السكر حد ينتهى إليه، ولا يوقف عنده، ولا يعلم شارب من شاربي المسكر متى يسكر حتى يسكر كما لا يعلم الناعس متى يرقد حتى يرقد. وقد يشرب الرجل من الشراب المسكر قدحين وثلاثة أقداح ولا يسكر. ويشرب من غيره قدحاً واحداً فيسكر، لا، بل قد يختلف طبع الرجل في نفسه، فيسكر مرة من القدحين ويشرب مرة أخرى ثلاثة أقداح فلا يسكر.
رسالة عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار في الأنبذة
"أما بعد فإن الناس كان منهم في هذا الشراب المحرم أمر ساءت فيه رغبة كثير منهم، حتى سفه أحلامهم، وأذهب عقولهم، فاستحل به الدم الحرام، والفرج الحرام، وإن رجالاً منهم ممن يصيب ذلك الشراب يقولون: شربنا طلاء، فلا بأس علينا في شربه. ولعمري إن فيما قرب مما حرم الله بأساً، وإن في الأشربة التي أحل الله: من العسل، والسويق، والنيذ من الزبيب والتمر لمندوحةً عن الأشربة الحرام، غير أن كل ما كان من نبيذ العسل والتمر والزبيب فلا ينبذ إلا في أسقية الأدم التي لا زفت فيها، ولا يشرب منها ما يسكر؛ فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شرب ما جعل في الجرار، والدباء، والظروف المزفتة. وقال: "كل مسكر حرام". فاستغنوا بما أحل الله لكم عما حرم عليكم. وقد أردت بالذي نهيت عنه من شرب الخمر وما ضارع الخمر من الطلاء، وما جعل في الدباء والجرار والظروف المزفتة، وكل مسكر -اتخاذ الحجة عليكم. فمن يطع منكم فهو خير له. ومن يخالف إلى ما نهي عنه نعاقبه على العلانية، ويكفنا الله ما أسر. فإنه على كل شيء رقيب. ومن استخفى بذلك عنا فإن الله أشد بأساً وأشد تنكيلاً".
يتبع