يسألونك
عن
الخمر والميسر
لم تنزل آيات القرآن مرة واحدة، وإنما نزلت منجمّة أي مجزّأة، على مدى ثلاثة وعشرين عاما إلا قليلا. وكانت الآية أو الآيات تنزل عندما يظهر سبب يقتضي هذا التنزيل، ومع تتابع الآيات كان بعضها يفسر بعضا، وكان بعضها ينسخ آيات أخرى، إما صراحة وإما ضمنا، بإعادة تنظيم ذات الموضوع أو بتغيير الحكم بشأنها.
وأول ما نزل، فيما يتعلق بالخمر، بيان عن مصدرها( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكَرا ورزقا حسنا) سورة النحل: 67. فالآية تحدد شجرتي النخيل والعنب حيث تتحول الثمرات إلى سكر، كناية عن الخمر، ودون تمييز بين الخمر والسكر؛ هذا فضلا عن الرزق الذي يجئ من بيع المسكرْ، ومن الخدمة على شرابه.
بعد ذلك نزلت الآية(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما) سورة البقرة: 219، فالآية تقرر حالة بشأن الخمر والميسر بما يفيد أن فيهما إثم وفيهما منافع( للتداوي والعلاج والتجارة والارتزاق)، وأن الإثم أكبر من النفع، لكنها مع ذلك لم تحظر شرب الخمر أو تداوله على الرغم من الحكم بأن فيهما إثم كبير، ولعل حكم الآية كان يساير عادات ما قبل الإسلام، ويميل إلى أن يترك الأمر للشخص، حيث يعمل المعتدل على ضبط نفسه في الشرب وفي غيره، دون أن تلقي بالا إلى المتطرفين، في كل أوان وكل مكان، والذين لا ُيجدي معهم خطاب ولا ينفع زجر ولا تفيد عقوبة.
بعد هذا، حدث أن أحد كبار المسلمين صلّي وهو سكران سكرا بيّنا فاضطربت قراءته للقران إذ قال(أيها الكافرون أعبد ما تعبدون...إلخ) بدلا من (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) ومن ثم نزلت الآية(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) سورة النساء : 43. وبهذه الآية امتنع على المسلم الذي يعاقر الخمر أن يشربها عند مقاربة الصلاة، حتى لا يصلي، وهو سكران فيضطرب في صلاته أو يختلط ما يتلوه من القرآن.
بعد ذلك حدثت، على حين غرّة، حادثة مفردة، كانت ومازالت ذات أثر بعيد على الفكر الإسلامي وخلط شديد في الفقه الإسلامي. فقد توجه علي بن أبي طالب إلى عمه حمزة بن عبد المطلب فوجده فاقد الوعي من سكر بيّن، وقد ضرب بالسيف خواصر ناقتين لعليّ وجبّ أسنمتهما فتدفق منها الدم عليها وعليه، وإذ حاول عليّ أن يخاطب حمزة أو يهدّئه سبّه هذا سبّا فاحشا وهدده، فانطلق علي إلى ابن عمه النبي محمدا وأخبره بحالة حمزة فانطلقا معا صوب بيته ، حيث وجده النبي على ذات الحال الذي وصفه له عليّ، فلما أرادا تهدئته سبهما حمزة فقال لهما: وهل أنتما إلا عبيد لأبي؟( وهو وصف غير مفهوم من ظاهر التاريخ، لأن محمد أبن عبد الله وعلي أبن أبي طالب هما ولدي أخين لحمزة، هما عبد الله الذي توفى ومحمد مازال جنينا في بطن أمه، وأبو طالب أبن عبد المطلب) فتراجع النبي عن مخاطبة عمه حمزة، وهو متألم بلا شك، وخطر له على الفور أن العرب لا يعرفون اعتدالا ولا يطيقون توسطا، وانه إذا ُترك لهم أمر ضبط النفس في شرب الخمر وتحديد قدر ما يشربون فسوف ينفلت عيارهم، ويُسْرفون في الشرب حتى يحدث ما حدث، إذ سب حمزة النبي ابن أخيه وقائده بل ووصفه بأنه عبدُُ ُ لأبيه عبد المطلب، وعلى الفور نزلت الآيات(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون) سورة المائدة : 90 ،91
بهاتين الآيتين ُصرف ما حدث من حمزة بن عبد المطلب إلى عمل الشيطان الذي أراد أن يوقع العداوة بينه وبين ولدي عمه، واولهما محمد بن عبد الله نبي الأمة ورسول الله وقائد الجماعة.
ومنْع الخمر جاء بصيغة الاجتناب وليس بصيغة التحريم، والتنزيل على بيّنة من الفارق بينهما، بغير أدنى شك، وقد استعمل في ذلك الصدد ما يعد خطابا للشخص وللجماعة وليس صفة في الخمر المطلوب اجتنابها. لكن العرب، وهم أمة أمية كما جاء في حديث للنبي، ورد في صحيح البخاري، خلطوا بين الاجتناب والتحريم، وأذاعوا على الفور أن الخمر قد حُرّمت، فسرى الأمر على هذا المعنى، وذاع وشاع، واستمر واستقر فلم يستطع أي شخص ولا أي فقيه أن يقيم تمايزا بين الاجتناب والتحريم، لان قيمه انبنت واستقرت على الخلط بين الاجتناب والتحريم، ولأن الرد كان – لمن خامره الشك في وجود فارق- أن الاجتناب اشد من التحريم، في حين أن لا شيء في الواقع الديني اشد من التحريم، وان التحريم لشيء هو صفة به وحال فيه، أما الاجتناب فهو تصرف شخصي بالافتراز أو الامتناع عن شيء ليس حراما في ذاته.
فور نزول الآية السابقة اعترض بعض المسلمين على ما ورد بها من حكم، قائلين إن من ُقتلوا في غزوة بدر من المسلمين ماتوا وفي بطونهم الخمر، ومن ثم نزلت الآية( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)
وفي ترتيب آيات القرآن بالرسم (أي بالحرف) العثماني، ُوضعت هذه الآية إثر الآية السابقة، والخاصة باجتناب الخمر (سورة المائدة : 93) فصارا قسيمان لحكم معين أو وجهان لوضع واحد، في شق منه أمر باجتناب الخمر، وفي الشق الأخر بيان عن حال من يُعذر إن خرج عن الاجتناب. يؤيد هذا النظر
أ- أن القاعدة في القرآن هي الأصل العام في عدم سريان القانون أو القاعدة أو الأمر على الماضي، ومن مات من المؤمنين وفي بطنه الخمر قبل نزول آية الاجتناب التي لم يخاطَب بها هي خطاب لمن كان حيَّا من المؤمنين المسلمين فلا تسري على الماضي ولا تتصل بمن مات منهم قبل نزولها.
ب- أن هذه الآية نظير السؤال عمن مات وهو يصلي إلى القبلة الأولى، بيت المقدس، دون أن يتحول إلى القبلة الثانية، وهي كعبة مكة، مثل أهل قباء، رغم أن التنزيل كان قد نقل القبلة إليها دون أن يبلغه هذا النقل، وفي ذلك نزلت الآية( وما كان الله ليضيع إيمانكم) البقرة: 143، وهو حكم يسري بذاته في واقعة اجتناب الخمر.
وفي ذلك يقول الإمام القرطبي: ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له أو عليه شيء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح؛ لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يُتخوف ولا يُسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، (إلا أن) يكون ذلك القائل (قد) غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له( الجامع لأحكام القرآن المسمى تفسير القرطبي، طبعة دار الشعب – صفحة 229، 291)
وإذا كان السائل قد غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، فهل يمكن أن يغفل التنزيل؟ إن ذلك أمر لا يمكن للمسلم تصديقه أو الركون إليه، ومن ثم يكون للآية معنى آخر لا يتوقف عند من مات من المسلمين قبل نزول آية اجتناب الخمر وفي بطنه الخمر.
ح- وأن صياغة الآية لا تفيد القصر على وضع ماض لمن مات وفي بطنه الخمر قبل أن تنزل هذه الآية، ذلك أنها لو كانت تقصد ذلك لبيّنته صراحة ولما كانت صياغتها تتضمن عبارة"إذا آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا" وهو سياق يُفيد الحاضر وأنه خطاب للأحياء، وتكرار استمرارهم على الإيمان والتقوى والإحسان، في الحال وفي الاستقبال.
لو أن الجماعة المسلمة كانت جماعة غير أمية لتفادت كثيرا من الأخطاء التي لا تصدر إلا عن أميين جهلاء، ثم تتراكم مع الأيام حتى تصبح تقليدا شرعيا وموروثا دينيا، لا يستطيع الفقه الإسلامي، الذي بدأ يتكون منذ أوائل القرن الهجري الثاني، أن ينفلت منه أو أن يعدّل فيه أو أن يصحح ما جاء به من خطأ، لخطورة ذلك في الفكر الديني، خاصة مع وجود السيف والنطع في أيدي الحكام، مما جعل الفقهاء يبررون ويسوغون ما انبنى على الخطأ وصار من صميم الفكر الإسلامي، فإذا أراد احدهم إبداء رأي، أبداه على حذر، وأعلنه في وجل؛ لأنه كان بين شقي الرحى، السلطة الظالمة والعاتية من جانب، والجمهور الجاهل الصاخب من جانب آخر.
ولو انْصف التاريخ الإسلامي لحدث البحث في هاتين الآيتين بصورة علمية محددة تتضمن نقاطا ثلاث: ما هي الخمر، وما هو الاجتناب، وما هو نطاق وحدود الاجتناب؟
أ- وعن الخمر فقد روي عن النبي أنه أشار إلى كرمة عنب والى شجرة بلح ثم قال إن الخمر تكون من هاتين. وهذا يتوافق مع ما جاء في سورة النحل من آية سلف بيانها. وفي صياغة حديث عن النبي بهذا المعنى قيل( الزبيب والتمر هو الخمر). وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: إن الخمر من خمسة هي العنب والتمر والعسل والحنطة(أي القمح) والشعير. وعن أبي حنيفة النعمان أن سلافة العنب يُحرّم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد، أما النئ منه فحرام ، لكنه مع ذلك لا يوجب الحد إذا ما ُأكل أو شُرب، مادام لم يقع بذلك إسكار، فإن وقع إسكار فيكون محْدودا.
ويؤخذ على ما سلف ما يلي:
1- أن السنة العملية عن النبي، كالصلاة ومناسك الحج وشعائر العمرة أُخذت عنه بالتواتر، من الصحابة والتابعين وانتقلت إلى الأجيال التالية تقليدا دون تعديل ومن ثم فلا تثريب عليها. أما السنة القولية، وهي الأحاديث، فإنها تنقسم إلى متواتر ومشهور وآحاد. فالمتواتر هو الحديث الذي سمعه كل الصحابة والتابعين ثم انتقل منهم جيلا فجيلا، حتى عصر التدوين الذي بدأ في أوائل القرن الثالث الهجري. والثابت أن ثمت حديثا متواترا واحدا هو( من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار). أما المشهور، فهو الحديث الذي أجمع عليه التابعون، وهو الجيل الذي يلي جيل الصحابة، ثم تنوقل بعدهم بالتواتر جيلا بعد جيل. والأحاديث المشهورة حديثان، هما( ُبني الإسلام على خمس... إلى آخر الحديث) و(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى). أما باقي الأحاديث فهي أحاديث آحاد، أي رويت عن واحد بعد واحد بعد واحد، أي إنها جميعا أحاديث ظنية، بنيت على الظن وليس على اليقين. والثابت في بطون الكتب والتراث الإسلامي أن بعض أتقياء المسلمين كانوا ينتحلون(أي يختلقون) أحاديث ينسبونها إلى النبي ويقولون في ذلك(نكذب له ولا نكذب عليه) كما يقولون( إذا أعجبنا الرأي صيّرناه حديثا). وقد صدرت عن الأزهر الشريف فتوى في أول فبراير 1980 تتأدى في أن أحاديث الآحاد ظنية، ومن ثم لا يقوم بها فرض ولا يتعين منها حد. ونتيجة لذلك فإن ما نُسب إلى النبي عن قصر الخمر على ما يصدر عن كرمة العنب وشجرة النخيل جاء في حديث آحاد ظني، وهو تكرار لما جاء في آية عن ذلك، سلف بيانها، ومن ثم لا يمكن نسبته يقينا إلى النبي.
2- وما نُسب إلى عمر بن الخطاب بزيادة بعض المواد إلى العنب والزبيب في بيان اجتناب الخمر إنما هو قول ُمرسل، لم يدون في حينه، ويغلب التصور بأن يضيف عمر إلى ما جاء في القرآن، ثلاث ثمار أخرى يكون منها الخمر، مع قرب المسافة الزمنية بينه وبين التنزيل، وعدم ظهور علة تبين سبب هذه الإضافة. خاصة وأن الفقه الإسلامي، وأبو حنيفة بالذات، وقد جاء بعد عمر بحوالي قرن، لم يشر إلى ما ينسب إلى عمر من إضافة ثلاث مواد إلى ما ورد في النص القرآني، وما جاء في قول النبي، وهو القول الذي يجعله الفقه صادرا عن أبي حنيفة النعمان. والراجح من ثم أن ما نسب إلى عمر إنما هو اختلاق حدث في عصر متأخر، عندما عرف المسلمون من مصر وسوريا وفارس صنوفا أخرى من الخمر.
3- أن رأي أبي حنيفة قول رجل وإن كان فقيها، وقيل عن الفقهاء الأول"هم رجال ونحن رجال"، فيجوز أن يؤخذ به ويجوز ألا يؤخذ. لكن الملاحظ فيه أنه فرّق بين شرب الخمر والإسكار. وهو وإن لم يفصح في ذلك كثيرا، أو يؤصّله ويقعّده، ربما كان متأثرا بالفقه اليهودي، الثابت في التلمود، وهي التعاليم باللغة العبرية.
ب- أما الاجتناب فهو بيقين غير التحريم. والذي أحدث الخلط هو الجهل المتفشي بين الرعيل الأول من المسلمين والأمية الغالبة عليهم. ونتيجة لذلك وذاك فقد ساووا بين الاجتناب والتحريم، أو قال بعضهم ممن أدرك وجود مغايرة بين اللفظين أن الاجتناب أشد من التحريم، مع أن الحقيقة التي لا جدال فيها حين تظهر وتوضع في إطارها الصحيح، أن التحريم يتعلق بشيء أو أمر يكون حراما في ذاته، أما الاجتناب فهو خطاب للشخص حتى ينأى بنفسه أو يفرزها من شيء أو أمر أو موضوع ليس حراما في ذاته، لكن عليه أن يبتعد عنه ويكون بمنأى منه، لعلة أو أخرى، لظرف أو آخر، كما يطلب الطبيب من شخص مريض بمرض معين ألا يأكل اللحم الأحمر(لحم البهائم) حتى يشفى أو أن يتجنب الملح( لمن لديه ضغط دم مرتفع) وهكذا؛ مع أن اللحم الأحمر والملح ليسا حراما ولا في أي منهما شبهة الحرام.
يؤيد هذا النظر ما جاء رواية في الأثر من أن النبي أراد الوضوء فقال لابن مسعود: هل معك وضوء؟ يعني بذلك ماء الوضوء ليتوضأ به، فرد ابن مسعود بالنفي، فسأله النبي، وما هذه الإداوة(والإداوة إناء من الجلد)؟ قال ابن مسعود إن في الإداوة نبيذ. قال النبي: ثمرة طيبة وماء طهور. ثم طلب من ابن مسعود أن يصب عليه، فصب من النبيذ حتى توضأ( السيرة الحلبية- المجلد الثاني- صفحة 67).
ومعنى تصرف النبي وقوله واضح لا تثريب عليه ولا لغو فيه، وهو أن ماء الخمر طاهر وغير محرم، ويمكن الوضوء به، غير أن هذه الواقعة الواضحة الصريحة أقْلقت البعض ممن غلب عليه مفهوم التحريم، واستغرق فيه معنى الاجتناب، فإذا به من ثم يشكك في الواقعة، وإذا ببعض آخر يرجع زمنها إلى ما قبل الأمر بالاجتناب. ومهما يكن من حال، فإن الشك فيما لا يوافق الاعتقاد، من الثابت في السير وفي الأثر، يمكن أن ُيعمّم فيطال كل الواقعات وكل التاريخ الإسلامي، وتغيير وقت الأحداث ليس بمجد في هذا الصدد، إذا أمكنت التفرقة بين الاجتناب والتحريم، و إلا فإن تأريخ الأحداث لم يقع من المسلمين ولم يعرفه العرب أصلا، حتى وصل الأمر إلى عدم تحديد أوقات تنزيل بعض آيات القرآن، وأيها السابق وأيها اللاحق، وما هو الناسخ وما هو المنسوخ. ومع تقدير ذلك كله، فإن الواقعة السالفة- حتى من غير تأكيد- تفيد أن الخمر في ذاتها ليست بشيء، إنما السكر البين هو الذي قصدت الآية اجتنابه. وإذ كانت العبرة في الأحكام هي بالمقاصد، فإن الفقهاء تحايلوا حتى يصلوا إلى هذا المعنى مخافة رجال السلطة الذين كانوا يعاقرون الخمر في الخفاء ويحرمونها في العلن؛ وتجنبا لثورة الجماهير عليهم، بينما الكثير منهم كان يشرب الخمر أو يتعاطى المخدرات، وهي بتحقيق الغاية تدخل في معنى الخمر؛ لأنها تخْمر العقل أي تحجبه، ثم يستنكر ذلك حتى لا يُتهم في دينه.
وعدد الخمارات في مدينة بغداد أيام العصر العباسي خير ما يشي بذلك. هذا فضلا عن شيوع شرب الخمر في قصور الخلفاء والمياسير.
ح- أما نطاق وحدود الاجتناب، فهو فيما يتعلق بموضوع الخمر يتحدد بنقيع العنب والبلح، لأن هذا هو ما ورد نصا في الآية( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا). وهو ذات النص في الحديث المنسوب إلى النبي، والذي ينسبه الفقه إلى أبي حنيفة. والتوسع فيما عدا هذين المذكورين نصا، إنما هو قياس فقهي، أي إنه عمل للناسHuman وليس عملا للهDivine .
والمقصود من الاجتناب هو عدم شرب نقيع العنب أو البلح إلى حد السُكر البيّن الذي يخمر العقل تماما، فلا يعي المرء أثناء السُّكر ما يقول أو ما يفعل ولا يسيطر عما يصدر عنه، وبالمفهوم الديني أن ينزع عنه الوعي الإنساني ويترك نفسه للدفع الشيطاني. وتعميم الاجتناب إلى كل ما يخمر العقل، أو الركون إلى حديث ظني غير يقيني من أن ما كان كثيره مسكر فقليله حرام، حكم يتصل – إن كان- بالجواهر المخدرة كالإذخر والقات والحشيش والأفيون وغيرها من المواد التي يهدئ القليل منها ويخدّر الكثير منها، وهو ما لا يقول به أحد من الفقهاء، وخاصة المعاصرين منهم الذين تكون لبعضهم صلات مع تجار ومتعاطي هذه المخدرات. يضاف إلى هذا أن الحبوب المهدئة أو المنوّمة التي يستعملها كثير من الناس تدخل في معنى الخمر، على تقدير أنها تخمر أي تحجب العقل فتؤدي إلى النوم أو تهدئ من الانفعالات. وقد كانت حكومة طالبان الإسلامية في أفغانستان هي أكبر مصدّر للأفيون والهيرويين في العالم، ولمدة طويلة، ولم يعترض على ذلك أحد من نشطاء أو وعاظ الإسلام السياسي، بل كان بعضهم يبرر تصرف حكومة طالبان قولا بأنه عمل سليم وصحيح شرعا(!!!).
لأنه يوجّه المال العائد من البيع إلى نصرة الإسلام(السياسي بالطبع)؛ وبهذا المنطلق الأعوج يمكن إتباع طريق الشيطان لتأييد كلمة الله، ويجوز أن يقال عن الباطل حقا، وعن الشر خيرا، فيلتبس الحق بالباطل والخير بالشر ويختلط مفهوم الشيطان بمعلوم الرحمان.
ومما يلاحظ فيما ذكر عن أبي حنيفة( الذي يمثل في الفقه الإسلامي مدرسة العقل) أن سُلافة العنب يُحرّم قليلها وكثيرها، إلا أن تُطبخ حتى ينقص ثلثاها، أما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا دون اعتبار بحد(أي بوقت أو بأثر). أما النئ منه فحرام، لكنه مع ذلك لا يوجب الحد إذا ما أكل أو شرُب، ما دام لم يَحدث من الأكل أو الشرب إسكار. ويعني ذلك أن سلافة العنب، وهي الخمر الخالصة، يُجتنب( وقد عبر هو بلفظ يحُرّم) قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ( والطبخ هو ما يعبر عنه البعض بالتخليل) حتى ينقص ثلثاها.
أما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما متي مسته النار لأيّ وقت أو لأي درجة. أما النئ منها فحرام (يقصد يتعين اجتنابه) لكنه مع ذلك لا يوجب الحد إن حدث أكل له أو شرب ما دام لم يصل بالآكل أو بالشارب إلى درجة السكر، وهي درجة نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، وتتغير من شخص إلى شخص، وقد ينزلق إليها الشخص دون أن ينتبه، وعلى الرغم من أي تحوط منه.
وأما من حيث المخاطبين بالاجتناب، فهم العرب والأعراب على عهد النبي، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وقد خوطب العرب به أولا. وهؤلاء العرب والأعراب لم يكونوا يعرفون حدودا ولا يدركون توسطا ولا يقدرون على الاعتدال، فكانت كل تصرفاتهم وأعمالهم وأقوالهم، محمولة على ما جبلوا عليه من غلو وتطرف وإدمان. يؤيد هذا النظر أن بعض الأعراب سألوا النبي أن يرخص لهم في شرب الخمر، فرد على من سأله ذلك قائلا: إن رخصت لك في مثل هذه( ومثل بيديه بما يفيد القليل) شربتَه في مثل هذه( وفرج بين يديه وبسطها) يعني أعظم وأكثر منها، حتى إذا ثمل (أي سكر) أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمه(أي إلى قريب له) فضرب ساقه بالسيّف ( السيرة الحلبية- الجزء الثالث- صفحة 253). فالقصد، أو المقصد أو الغاية، من الاجتناب هو على ما قال الفقه المالكي بعد ذلك إنه"سد الذرائع" لان من أبيح له أن يشرب القليل، وهو ضعيف الإرادة، حدثا أو كالحدث في تصرفاته، وغير الناضج في عدم القدرة على ضبط إرادته، يمكنه أن ينزلق أو ينحدر إلى شرب الكثير فيسكر ويقترف الخطأ أو يرتكب السوء. وكل الواقعات التي وردت في هذا الصدد، مما سلفت الإشارة إليها، ومما لم يسلف ذكرها، هي واقعات كان فيها جنوح شديد وجموح بعيد.
أما في ما وراء عهد التنزيل من زمان أو مكان، فإن الأصل فيه أن كل ما يؤُكل أو يشرب بإسراف دون اعتدال أمر محظور، وبالتعبير الديني حرام على أي شخص. وهو أمر يسري على الخمر والمخدرات والمهدئات والمنومات والمسكنات.
ويلوح أن اجتناب الخمر لم تكن وصية سهلة القبول بسيرة التنفيذ، فقد ظل عدد من المؤمنين يعاقر الخمر إلى حد السكر، مما دعا النبي أكثر من مرة إلى تعزير الشارب. فكان بعض الحضور في مجلس النبي يضربون الشارب بأيديهم أو بأحذيتهم ضربات غير محددة، فهي من ثم تعزير؛ لأن اجتناب الخمر هو في القرآن وصية دينية، وليست جريمة يعاقب عليها بعقوبة محددة في القرآن أو في السنة حتى يكون حدا، بالمفهوم الفقهي لمعنى الحد.
وفي عهد عمر بن الخطاب حدثت واقعتان مهمتان للغاية:
الأولى- أنه أراد معاقبة من لم يجتنب شرب الخمر، ولعدم وجود عقوبة حدية قال علي بن أبي طالب: من شرب فقد هذى، ومن هذى فقد افترى، فحدوه حد القاذف وهو ثمانون جلدة. والمقصود بالقاذف من يقذف مسلمة محصنة بأن يرميها بالزنا ثم لا يستطيع إثبات ذلك. هذا مع أن أبي بكر كان يضرب من لا يجتنب شرب الخمر، وهو بالغ عاقل حر الإرادة، أربعين جلدة. وصار الفقه الإسلامي يرى أن عقوبة شرب الخمر هي عقوبة حدية، قدرها ثمانون جلدة. مع أنها تعزير وليست عقوبة حدية، أي إنها عقوبة قررها ولي الأمر وليست عقوبة مذكورة ومحددة نصًّا في القرآن أو نقلا متواترا عن النبي.
الثانية- أن أبا محجن الثقفي( الذي كان قد رغب في أن يدفن إلى جوار كرمة عنب حتى تظل عظامه ترتوي من الخمر فلا يحرم منها) كان قد شرب الخمر حتى سكر فلما أراد عمر بن الخطاب أن ينزل به عقوبة حاجّه أبو محجن بأن لا إثم عليه ولا عقوبة يمكن تطبيقها، وركن في ذلك إلى الآية التي نزلت بعد آية اجتناب الخمر والتي أثبتت في القرآن(بالرسم أي بالحرف العثماني) بعد الآية المنوه عنها( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين). وتختلف كتب التاريخ والفقه فيما حدث بعد ذلك، فاتجاه يؤكد أن عمر لم يوقع عقوبة التعزير على أبي محجن الثقفي، أي انه اقتنع بوجهة نظره تلك والتي كانت بلا شك وجهة نظر كثيرين، واتجاه يردد أن عمر أوقع عقوبة التعزير على أبي محجن. وحتى إن كان عمر قد أوقع عقوبة على أبي محجن فإنها ليست حدا، ويكون قد غلّب تفسيرا على تفسير آخر، باعتبار أنه ولي الأمر. إنما يظل رأي أبي محجن الثقفي ورأي صهر لعمر نفسه ورأي آخرين، وهم كثير، رأي فقهي يقابله رأي آخر فقهي كذلك، أي إنها كلها أراء للناس.