وأنتم ترون شبابا فرادى ومثنى وجماعات لدراجاتهم الهوائية ممتطين أو على أقدامهم يمشون وللقيثارة على ظهورهم حاملين، لا تستغربوا فأنتم في حضرة أبناء الجنوب الشرقي متواجدون.
كلما أرى ذلك المشهد العجيب، أصمت مستسلماً لذكرى تأخذني إلى الأيام الخوالي، ذكرى جد كان يردد على مسامعي – وأنا يافع لا أفهم عمق معنى النضال بعد – أن البندقية لا تفارق أكتافهم إلا نادراً، يقاتلون بها العدو لا لسبب إلا لكي يكونوا أحراراً… ذكرى تخلق الفوضى في الذاكرة وتجعلني أرى القيتارة بندقية وأتخيل كلماتهم رصاصاً يتطاير في الهواء…
كلما أراهم يغمرني الحنين وتصحو الذكريات وتقصفني جيوش الأفكار وتلبسني الأشواق والبطولات وحتى الخسارات وتتراءى لي القيثارات أوسمة فخر تتحدى في كبرياء نياشين الجنرالات… أتخيل زايد أوحماد أو عسو أوبسلام ببندقيته فينتصب أمامي “نبا” بقيتارته…
كلما رأيتهم أتابعهم بنظراتي وصوتهم يتناهى إلى مسامعي وكأن لسان حالهم يقول : «استنهاض الهمم والذاكرة أمانة في أعناقنا».
أبناء الجنوب الشرقي كما يسمى أو ”أسامر” كما سميته شخصيا ذات يوم، حملوا البندقية في زمن كانت فيه أصدق الأسلحة وهاهم اليوم مدججين بقيثاراتهم وبكلمات كالرصاص تتصدع لها معنويات و أباطيل أعداء الأمازيغية… كلمات كخطب عصماء تارة وكشعارات صلداء تارة أخرى وتبدو أغانيهم كالبكاء تارة وكريح عاتية تزمجر وتحطم الأشياء تارة أخرى، وتارة تتجلبب بالسخرية السوداء وتارة أسمعها كصرخات في وجه مملكة الصمت والتجاهل ثم التردد…
شباب “أسامر” ليس لهم من أوقات الاحتفال إلا تلك الأمسيات التي استطاعوا أن يسرقوها من أنياب هذا الزمن الرديء غير آبهين بما يرتكبه إعلامهم الرسمي من تفاهات وحماقات تسوق الرداءة وتصنع فنانين من ورق…
ما أنا متأكد منه أن أبناء “أسامر” مناضلون من معدن ناذر لا تنال من صمودهم الزوابع وأنهم بأحلام مجنحة لا يتوانوا في فضح سياسات حكومية مشدودة إلى عالم الدسائس والترهات والخزعبلات والانتماءات المصطنعة وأسطورة القومية البائدة ونظام يكرس الاستبداد بدساتير ممنوحة…
خلاصة القول أن بندقية الأمس هي قيتارة اليوم، وهما سيان ما دام أن نكون أحراراً هو الهدف الذي حملتا من أجله، لكن جديد اليوم هو قديم الغد، فمن يدري ماذا ستحمل الأجيال القادمة…؟ نحن إذن بالآمال أحياء وبالأماني سعداء وإن كانت كاذبة.