[size=21] - [size=21]من أنت ؟ [/size]
و يعود الصدّاع يفتك برأسي .
يسألني السائق مجددا : هل جئت زائرا ؟
فلا أجد بدّا من التمترس خلف صمتي برغم ما تصطخب به نفسي .
كل شيئ يمر على عجل أمامي فقط هذا الجالس بجنبي لا يزال ساكنا يسأل .
لم يمض وقت طويل مذ وجدت نفسي في جوف سيارة الأجرة ، لكني أشعر برغبة كبيرة في النزول منها ..
الكرسي الذي يحتويني أشبه بقطعة حديد صدئة ، إنه يإن من تحتي في كل مرة يهتز فيها هيكل السيارة .
أكره أن أبدي ضعفا أمامه - السائق - لكن أنفاسي تخونني و تخرج من صدري على عجل .
حاولت أن أطّوّح ببصري بعيدا خارج زجاج النافذة ، فوجدتني أنظر إلى سماء صاخبة لا تعبث بأجواءها غير ستائر الدخان .
أين أنا ؟ . هل أجيب نفسي هذه المرة. أوااه من هذا الصداع إنه يزداد غطرسة و جبروة .
- ما بك ؟ هل ابتلعت لسانك؟
يسألني السائق مرة أخرى .
- عذرا . لكني لست على ما يرام .
يده تمتد إلى جيب سترته .
- خذ . إبتلعت هذه الحبة وستشعر بتحسن .
- شكرا . لست بحاجة إلى دواء .
لماذا الكذب ! الألم في رأسي لا يحتمل .
مذ وجدت نفسي على أرض ( الوطن ) و عقلي تعبث به التساؤلات ، ماذا تغير ياترى ؟
إنها نفس الطريق من المطار إلى المدينة ، لما القلق .
- هل ترى تلك الحفرة الكبيرة أمامنا ؟
لن أجيبه .
- إنها لقذيفة "هاون " سقطت هنا بالأمس .. مات عدد من الناس أغلبهم عائدون مثلك .
وما أدراه أنهم عائدون ! بل لماذا يخبرني بذلك ، الناس تموت كل يوم ولا أحد يسأل .
إنه خائف مثلي ، لن يخدعني شاربه الطويل و لا سمرة جبينه . إنه خائف ولا شك !
''
أشجار الصنوبر تسير القهقري . إنها تظهر فجأة على جانبي الطريق لتعود و تختفي مسرعة ، لا شيئ يبعث على الإرتياح في الخارج !
قبل شهر من الآن كانت الخضرة تسكن هذه الفسحة من الطريق . اليوم لا أثر ، لا بد وأنها ارتحلت إلى أرض أخرى .
المركبة ترتج بعنف ، إنها تتمايل يمنة ويسرة .أحشائي تكاد تتقطع من شدة الدوار ، أحسبني سأخرج كل ما أكلت هذا الصباح.
شمس الظهيرة بدأت تشتد على معدن السيارة . السائق يمسح جبينه من حين لآخر دون أن يتكلم ، يبدو وأنه ملّ الحديث إلي .
[size=21] الصمت ! لا شيئ غير الصمت و صوت أنفاسي المضطربة . لا شيئ يبعث على الإرتياح في الداخل أيضا ![/size]
- هل أنت خائف ؟
السائق يحدجني بنظرات ثاقبة .
- و مما أخاف !
- [size=21]لقد ذكرت أناسا قتلوا هنا بالأمس .[/size]
إبتسامة غريبة ترتسم على وجهه وهو يعدل من نظارته .
- لن يموت أحد قبل أجله .
للحظة كدت أن أصدق كلامه . إنه مضطر للعمل ، هناك أفواه تنتظره . أنا على يقين من ذلك !
لا أحد غيرنا يسلك هذه الطريق . لم أرى مركبة أخرى تتجاوزنا، في المقابل لا شيئ يأتي من الجهة المعاكسة أيضا .
من أصدّق ؟ أشعر بعزلة قاتلة . فقط أنين هذا الكرسي من تحتي يعيدني إلى ( الوطن ) .
''
على مبعدة منا راحت بنايات المدينة تلوّح بهاماتها وسط غبش رمادي ثقيل . لا يفصلنا عن الوصول سوى بضع دقائق .
السائق راح يخفف من السرعة وكأنه أبصر بشيئ في الأفق .
- [size=21]لماذا أبطأت ؟[/size]
- هل أوراقك معك ؟
- أجل هي ذي .
حقيبة يدي كانت معي . فتحتها وأخرجت من بطنها ما يلزم .
- لماذا الأوراق ؟
قلت و جسدي يرتعد .
السائق أشار برأسه إلى الأمام . إنها دورية عسكرية تقيم حاجزا عند المنعطف .
المركبات مكوّمة الواحدة أمام الأخرى ، عناصر من الجيش تنتشر حول المكان . الرشاشات في أيديهم تلتمع تحت أشعة الشمس .
إنهم فرقة من الجيش ولا ريب.. تلك البذلات التي عليهم ليست للشرطة .
إقتربنا ببطء . السائق وضع نظارته جانبا و اعتدل في جلسته .
أحدهم أشار إلينا بكف يده أن نتقدم أكثر ، شعرت حينها بجفاف في حلقي و بالرعب يزلزل أقطار نفسي .
مع وصولنا إلى الحاجز تواترت إلى مسامعي أصوات العناصر وهم يستجوبون أصحاب المركبات المرصوصة على جانب الطريق ،
إنهم يفتشون كل شيئ بداخلها . إمرأة ملفّعة بالسواد خرجت من إحدى المركبات فأعادها أحد الجنود بالقوة ، لا مجال للحركة هنا .
- توقف .
صوت كدوّي المدافع يشل حركة السائق .
- [size=21]ترجل من السيارة .[/size]
كان هناك ضابط يسير بخفة باتجاهنا ، وقع حذائه العسكري يثير الرعب في النفوس .
السائق المسكين نزل من السيارة وهو يحمل كل ما معه من أوراق ، الضابط كان ينظر إلي من وقت لآخر وهو يكلمه و يتفحص الأوراق
التي بين يديه . لم أسمع ما دار بينهما من حديث ، لكن ما كنت على يقين منه هو أن دوري سيحين بعده .
بعد حين عاد الرجل ليجلس خلف مقود السيارة . لم ينطق لسانه بحرف ، فقط تمتم ببضع كلمات ثم صمت من جديد .
شاهدت الضابط وهو يبتعد . حدست بأن السائق قام بما يلزم وصرفه ، لقد شعرت بسعادة لا توصف وبالخوف يزايل قلبي قليلا .
- الحمد لله .
- لا تستعجل .
- ماذا تقصد .
السائق اللعين عاد ليصمت من جديد .
سيارة "جيب" توقفت على الجهة المقابلة لنافذتي . جثة ضخمة يسبقها كرش عظيم خرجت منها ، لا أدري حينها لماذا عقدت مقارنة بين
بذلته العسكرية والكرسي الذي أجلس عليه . لا شك وأنهما يشتركان في ذات الأنين .
إقترب من زجاج نافذتي فأدركت أنه يقصدني . النجوم على كتفه تدل على أنه من رتبة سامية .
طرق زجاج النافذة وأشار إلي بالترجل . برودة شديدة سرت في جسدي برغم الحديد المحمى من حولي ، السائق لم يتحرك من مكانه .
نظر إلي من تحت قبعته المرقطة ثم سألني :
- من أنت ؟
نظرت إلى أوراقي الثبوتية في يدي . كان الصداع قد فارق جمجمتي . أجبته :
- [size=21]أنـا ! .. أنـا عائـــــد .[/size]
إليك يا ابن البيضاء ..