Med amin مشرف سابق
الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 1629 نقاط : 7761 تاريخ التسجيل : 27/09/2011
| موضوع: إختلاف الجمعة 30 ديسمبر - 18:16:03 | |
| بسم الله الرحمنِ الرحيمِ ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
مِنْ العجاب أن يخطو مُحترمًا مِثله على هذا المكان، فَعَشرات الأيادى تشدَّهُ لرؤية بضاعتها ورائحة الزفارة تُعبِّق السوق وتملئ الأنُوف، أرادَ تركَ كُلِّ شئٍ والخروج من السوقِ ولكنْهُ كالحبيسِ لا يستطيع؛ وزوجته قالت بالحرفِ الواحد قبل أن يُغاِدر البيتَ :
- إتنين كيلو بطاطس، فرختين بلدى، فاكهة للبيت.
يُريدَ أن يخرج بحقٍ فأىَّ قيود تكبلك أقيود المرأة فى البيت أم قيود الزِحام؟، يزعجه صياح وحركة الباعة كأنه فى خلية نحلٍ يرتدى الجلابيب، توَّسخت قدماه من الأرض الطينية التى يسير عليها، المُفترض أنه يمشى على الأسفلت ولكن الطين حلَّ محله فى لحظة ما وزمنٍ ما، بلغ من القِدَمِ بحيث لا نستطيع التوصل لحقيقيته المحددة .
وصَل عند بائع البطاطس وطلب إثنين كيلو فأعطاه الرجل كيسًا صغير قائلاً (أوزن!)، كان صعيديًا أو فلاحًا بجلبابٍ زيتىّ اللون فى حوالى الخمسين من عمره وكلل وجهه شارب كث أخذ شكل الهلال، ردَّ عليه بتلقائية (لا أعرف أن أوزن، من فضلك أوزن أنت إثنين كيلو !) فتململ ذو الجلباب وهمس فى سره (لا حول ولا قوة إلا بالله). شرد بعينه مع بائع التين الشوكى الذى أخذ (كوز) ماء وأغرق به هذه الفاكهة الصفراء لينضج لوّنها وينتعش وأخذ يمسك التين فيضربه ضربتين بسكينه ويقشِّر القشرة ويرميها فى دلوٍّ قريب ثم يضعها فى كيسٍ ويصيح بأعلى صوت (أيوه التين الشوكى(
هكذا قال بائع البطاطس، أعطاه الثمن ورحل. الطريق ضيق جدًا مما أثار فى نفسه الغيظ يكاد يختنق من ضيق الطريق ويتفرع فى تفرعات أضيق من الطريق الضيق !! وفى إحدى التفرعات الجانبية رأى صبيًا صغيرًا وسيمًا لطَّخ الطمى وجهه، وقطَّعَ الزمان جلبابه، وأرغمه أهله على تنظيف الدم الذى ينبثقَ من عُنق هذا الحيوان المذبوحِ لتوَّه، هذا محلُ جزارة إذن وقد ذبحوا الذبيحة فى منتصف إحدى الطرق الفرعية من السوق، إنه خروفٌ فى الغالبِ، مسكَ الصبى (المسَّاحةَ) وطفحَ يرسل الدمِ لمجرى المجارى، فأبتعد بنظره مؤكدًا ( فرختين بلدى، فاكهة للبيت(
ولكن ثمة شئٍ مُريب حول هذا الصبى جعله يشرد بعينيه معه، الدم والأحشاء الغليظة تُغطى الأرض فيزيحها الصبى ناحية المجارى، اقترب مِنه مُحملقًا، رآه الصبى حينها وأصابته خضة فوثبت (المسَّاحة) من يدِه وثبة كبيرة ليرسل قليلاً من بقعِ الدم على البنطال الأبيض للرجل، فتحاشى النظر عن هذا الصبى ورفع قدمه اليسرى ليتجنب مزيدًا من بُقعِ الدم على أسفل بنطاله، وتحرك من مكانه ليكمل طريقه الرئيسى الضيق لبائع الدجاج راضيًا بالنقطة الحمراء الصغيرة التى أصابته مقتنعًا أن اليوم سيمرُ بسلام .
نظر وراءه فوجد الصبى يركض وراءه بالمسَّاحة ويضحك ضحكةً أظهرت أسنانه الصفراء كلها وضغط الصبى على المساحة لتصيب الرجل بقعة دمٍ أُخرى، حاول الرجل أن ينأى بنفسه عن هذا العبث الطفولى ويمنع مزيدًا من بُقعِ الدم عن إصابته، فسار للأمام حوالى خمسة أمتار مادًّا خطاه ولكن الصبى سار معه، فركض وركض الصبى وراءه، أثار الصبي فى نفسه قشريرة برد وخوف فلماذا يتتبَّعهُ ؟! وبغتًة تهاوى الصبى بالمسَّاحة على بنطاله، فتلَّطخَ كل بنطاله الأبيض بلون الدمِ الأحمر وفاحت رائحة الدم مِنه؛ تلك الرائحة التى تُصيب هذا الرجل حالة غريبة من الغثيان ووهن القلب، أما الصبى فيضحك ويقهقه، والمارة متعجبون لكن منشغلون بالبيعِ والشراءِ.
*** كانت سنا الشمس حادة فى الظهيرة وكان هناك رجلاً آخر يمرُ بالصدفة فرأى صبيًا صغيرًا يضربُ رجلاً محترمًا بالمسَّاحة ليلوث بنطالهُ بالدمِ، فى البدءِ أحسَّ برغبةٍ للضحك من كثرة الطرافة ثم رَغِبَ بتوقف هذا العبث، وفِيْ الحال أمسك الصبي الصغير من كتفه حتى كفَّ الصبى ثم نَهَرهُ مُنكرًا عليه فِعلته، فرحل الصبى بمسَّاحتِه واثبًا ذات اليمين وذات اليسار فى الهواء عائدًا بمرحٍ للجزارة كى يكمل عمله.
وتوقف أمامه الرجل المحترم الذى تغرَّق بنطاله بالدمِ كاملاً، تقلبت نظرات بسيطة حتى قال المحترم (شكرًا) ورحل ببنطالِه الملوّث، فرمقه وهو يرحل وقال بصوتٍ خفيض : واأسفاه، أحدهم فقد الطفولة صغيرًا والآخر نسى الرجولةَ كبيرًا !
وفى طريقه لبائعِ الدجاج نظر المحترم للمرة الأخيرة لبنطاله المخضب بالدمِ، ثم نكس هامته فى الأرض وقال لنفسه : شياطين صغار هه .. المهم الآن فرختين بلدى وفاكهة للبيت !
|
|