رطاج مدينة أمازيغية بامتياز، لكن السطو الذي حدث من قبل المؤرخين الرومان
ومن بعدهم منظرو الايديولوجيا البعثية هم الذين روّجوا لكذبة كبرى اسمها
قرطاج الفينيقية، فالمدينة كانت قاعدة تجارية لجالية فينيقية صغيرة حسب
اسطورة إليسا Elissa والواقع أن مقاربة لغوية قمنا بها تجعلنا نميل إلى زيف
الاسطورة التي روج لها الاغريق ذلك أنّ اسم اليسا يمكن أن يكون مشتقا من
كلمة ثولاّس Tullas الامازيغية التي تعني النساء، كما أن قرطاج التي يكرر
ذوو النزعة السامية أنها من الكلمتين : قرت + حدشت هي ليست كذلك بل إن كل
ما في الأمر أن قرطاشت هو النطق الأمازيغي لقرطاج، والعارفون باللغة
الأمازيغية يدركون ذلك، واليوم يراد لتونس ان تنسلخ عن هويتها وأن تنتمي
إلى تاريخ مزيّف مصنّع في مخابر الايديولوجية البعثية اليوم والامبريالية
الرومانية بالأمس.
يمكن أن نتساءل عن نموّ قرطاج باتجاه البرّ، لقد
كانت في البدايات مرفأً مستقبلاً جهة البحر، وليس له ظهير(Arrière
pays)،إنّه عبارة عن قاعدة تجارية مؤجَّرة من المملكة الماسيلية فمتى أصبح
لقرطاج ظهير مرتبِط بها ومتى أصبح لها إقليم؟. يُستخلَص في هذا الشأن أنّ
قرطاج لم تكوّن إقليمها إلاّ بعد ثلاثة قرون من تأسيسها،وهو إقليم أخذ
يتوسّع تدريجيا في الحوض السهلي الذي يخترقه المجرى الأدنى لباغرادا[1]،
ولم تكن له حدود ثابتة إلاّ بعد الاتفاقية الشهيرة التي رسّمت الحدود بين
المملكة النوميدية والقطر القرطاجي وهي الحدود المعروفة بالخندق
الملَكي(Fossa regia)،ويمكن افتراض أنّ أرستقراطية قرطاج التي أثْرت من
التجارة قد أخذت تتملّك الأراضي عن طريق الشراء ، وتعْهد بتسييرها والعمل
بها إلى عناصر من الأهالي،وفي هذا السياق يُفترَض أن تنمو روابط الجالية
الفينيقية وتزداد وثوقا واندماجا في وطنها الجديد، لتأخذ ملامح الإقليم
القرطاجي في الظهور بتشكُّل المجتمع الليبو- فينيقي أو البوني ، ومع ذلك
ظلّ هذا الإقليم شريطا ساحليا يشمل إلى جانب أملاك الطبقة الحاكمة في قرطاج
أملاك العائلة الملَكية الماسيلية النوميدية ، ومهما كان اتّساع الأراضي
التي امتلكتها الأرستقراطية التجارية القرطاجية في الوطن القبلي (Cap bon)
والمجرى الأدنى للمجردة[2] فإنّ ذلك لا يخوّل لها السيادة السياسية
والتحوّل من مؤجِّر إلى صاحب أرض يمارس السيادة،وأكثر من ذلك يستنكف أن
يندمج في محيطه الأفريقي،وهو ما سينجرّ عنه صراع مرير استثمرته روما أحسن
استثمار ! [3].
وجدت قرطاج في رعاياها الليبيين المرتبطين بخدمة
الأرض منافع كبرى، ففي الفترة ما قبل امتداد السيادة القرطاجية برّا (قبل
القرن الخامس ق.م.) كان الفلاّحون الليبيون (الأمازيغ) يشغُلون كلّ الأراضي
المحيطة بقرطاج وكذا شبه جزيرة رأس بونة (الكاب بون أو الوطن القبلي)،
التي وصفها بوليب (القرن 2 ق.م.) بأنّها غنيّة بالخيل والأبقار والأغنام
والماعز ممّا لا وجود لمثله على الأرض[4]، وهؤلاء الفلاّحون الليبيون هم
الذين ظلّوا يزوّدون قرطاج على امتداد قرون بما تحتاجه من إنتاج فلاحي[5]
ومن ضرائب عينية ونقدية ، وتدلّ كثافة العمران (قرى ومشاتي) على نمو
ديمغرافي كبير،وعلى ازدهار اقتصاد زراعي بإمكانه أن يلبّي طلبات أغنى مدينة
في عصرها.
كانت قرطاج مركز تجميع وتوزيع للسلع،فقد كانت تأتيها
الحلْفاء لصناعة الحبال من إسبانيا والذهب والفضّة من أفريقيا الغربية
والقصدير من إسبانيا والجزر البريطانية[6] والعاج والأفيال من أفريقيا
والحبوب من سردينيا، ومن أنحاء الشمال الأفريقي القديم كان يأتيها العسل
والتين والرمّان وهي موادّ ذات شهرة وجودةكبيرة،والأخشاب ورخام شمتو
الملوّن والملح والحيوانات المتوحّشة، والأحجار الكريمة من بلاد
الغرامنت[7]،والتمور من الصحراء ...[8].
حقّقت قرطاج من تجارتها
أرباحا طائلة فتجمّعت الثروة في أيدي الأسر القوية وبذلك انتقلت قرطاج من
الدكتاتورية الفردية إلى الدكتاتورية الأوليغارشية أي من حكم الأفراد إلى
حكم القلّة الأسرية مثل عائلة ماغون[9] وانصهرت الجالية الفينيقية في
الأغلبية الأمازيغية وتأفرقت قرطاج نهائيا منذ النصف الثاني من القرن
الخامس الميلادي عندما أوقفت دفع الاتاوة للملوك الماسيل معتبرة نفسها دولة
أفريقية أمازيغية صميمة.
دمتم أهل المنتدى...