“إني آمل أن تستفيد أمتي من تجربتي”
كانت هذه أمنية المجاهد محمد بن
عبد الكريم الخطابي الخالدة، التي أراد من خلالها أن يبعث برسالة إلى
الأمة على مر عصورها للاستفادة من تجربته الرائدة في الكفاح وفي النهضة.
فرغم مرور خمسة وثمانين عاما على حرب الريف التحريرية، فإنها ما زالت تحظى
باهتمام كبير من لدن الباحثين والمهتمين، وتنجز في شأنها دراسات وأبحاث،
ويحتفى بها على المستويات الدولية شعبيا وأكاديميا.
فليس بهين على
هذه الشخصية الفذة، التي قهرت دولتين أوروبيتين، إسبانيا وفرنسا وحلفاءهما،
أن تخترق الآفاق، وتصبح من الشخصيات الخالدة في التاريخ ماضيا وحاضرا
ومستقبلا. لم يعرف محمد بن عبد الكريم الخطابي كشخصية عسكرية فقط، بل كرجل
علم ودبلوماسية، وكمفكر استطاع أن يقود نهضة اجتماعية وتنموية بمنطقة
الريف، حيث ألهبت شخصيته ومعاركه قريحة عدد من الشعراء، فنظم في حقه الشاعر
الفلسطيني إبراهيم طوقان شعرا مطلعه:
في ثنايا العجاج والتحام السيوف
بينما الجو داج والمنايا تطوف
يتهادى نسيـم
فيه أزكى سلام
نحو عبد الكريم
الأمير الهمـام
ريفنا كالعريـن
نحن فيه الأسود
ريفنا نحميه
محمد بن عبد الكريم الخطابي: الرجل القضية
احتار
المؤرخون والمهتمون بتاريخ المقاومة الريفية، في فهم حقيقة شخصية المجاهد
الخطابي، والسر الكامن وراء انتصاراته الباهرة، خاصة في المجالين العسكري
والدبلوماسي.
ولد المجاهد الراحل بقرية أجدير عام 1882م، وكلمة
أجدير في الأصل كلمة أمازيغية تطلق على مخزن الحبوب في المطامر، وتقع هذه
القرية ذات الموقع الاستراتيجي بالغ الأهمية عند خليج مدينة الحسيمة، بحيث
تجعل منها قلعة حصينة منيعة، تجعل المجاهدين الريفيين في مأمن من كل هجمات
العدو برا وبحرا وجوا.
بهذه القرية كان يوجد مقر قيادة الخطابي،
الذي للأسف الشديد كان ومازال معرضا للإهمال الرهيب، حيث لم تلتفت إليها
وزارة الثقافة التي تتسابق لتنظيم مهرجانات فلكلورية تافهة في مختلف مناطق
المغرب، والتي تصرف عليها أموالا كان من الأجدر أن توفر لتنمية المناطق
الفقيرة بالمغرب ومنها منطقة الريف المجاهدة.
يحكي حياته بنفسه في كتابه ”مذكرات عبد الكريم الخطابي” فيقول:
”
إننا من أجدير، ننتمي لبني ورياغل بالريف، مات أبي سنة 1920 وخلف ولدين،
أخي سي امحمد وأنا، عشنا طفولتنا بأجدير، وتلقينا تعليمنا بفضل أبينا وعمنا
سي عبد السلام، انتقلت بعدها إلى تطوان، ثم فاس، حيث قضيت سنتين بمدرسة
العطارين والصفارين، قصد تهييء ولوجي إلى جامعة القرويين.
… عدت إلى
أسرتي بالريف لبعض الوقت، ثم توجهت من جديد إلى فاس كي أقيم فيها لمدة ستة
أشهر، لكن هذه المرة ليس لأجل الدراسة، بل لإنجاز مهمة سياسية كلفني بها
أبي …”.
الجهاد والعلم : متلازمتان في تكوين الخطابي
نشأ
الخطابي في عائلة اشتهرت بالعلم، وتولى أبوه القضاء بقبيلة بني ورياغل،
والتحق بجامعة القرويين بالعاصمة العلمية للمغرب الأقصى بمدينة فاس، وكان
ذلك سنة 1905م، حيث سكن إحدى حجرات مدرسة الشراطين الشهيرة التي بناها
المرينيون، وبهذه الحاضرة العلمية، سمحت له الظروف بالاطلاع على المناورات
الداخلية والخارجية التي كانت تعصف بالمغرب، وكذا بالتشبع بأفكار ومبادئ
الحركة السلفية التي أرسى دعائمها دعاة الإصلاح والنهضة والتجديد، أمثال
جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمان الكواكبي ورشيد رضا، وكان
للخطابي إسهاماته المتميزة في مجال بناء الفكر والنهضة الوطنية المغربية.
الخطابي في مليلية
لجأ
محمد عبد الكريم الخطابي إلى مدينة مليلية، حيث كان يشغل منصب قاض، وفي
سنة 1914م، عين قاضي القضاة إلى جانب عمله بالصحافة، إذ كان ينشر مقالاته،
التي كانت تنم عن إدراكه العميق لما كان يجري من أحداث داخل وخارج المغرب،
في جريدة ”Telegrama del Rif” (برقية الريف).
ويحكي المقربون من
الأمير الخطابي أن والده وافق على شغل ابنه منصب قاض بمليلية كخطوة أولى
تكتيكية لاستعداد الريف لما كان يحاك له من مكائد من طرف الإسبان.
معركة أنوال الخالدة
”كم
من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة والله مع الصابرين” الآية. في يوم 25 شوال
1339هـ، موافق 21 يوليوز 1921م، وقعت معركة أنوال الشهيرة، التي تسمى
بالموقع الذي جرت فيه، وهو قرية أنوال، وإن كانت أحداثها قد شملت عدة
مواقع، بحيث عدت من أكبر المعارك التاريخية التي جرت بين المغرب وإسبانيا،
كمعركة الزلاقة أيام المرابطين، ومعركة الأرك في عهد الموحدين… وكان لها
صدى كبير في العالم الغربي، لأنها لقنت جنود الاحتلال دروسا لن تنسى إلى
الأبد.
خاض المجاهدون الريفيون المعركة وهم بضع مئات في كل موقع،
بحيث لم يكن يتعدى العدد الإجمالي ثلاثة آلاف مقاتل، في حين كان عدد جيش
الاحتلال ستين ألف جندي مدججين بأحدث الأسلحة الفتاكة. واعتمد المجاهدون
على الغنائم التي ربحوها من المحتل، حيث فقد هذا الأخير أسلحة متنوعة
وذخائر ومؤنا كثيرة، إضافة إلى نحو ألف أسير من مختلف الرتب العسكرية، كما
جن معها جنونهم لفقد 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح.
التحالف العسكري الإسباني الفرنسي ضد المقاومة
ظلت
فرنسا غير راضية على سيطرة المقاومين على المنطقة، وهكذا بعد أن خسرت
إسبانيا المعركة، وكاد وجودها أن ينمحي نهائيا، وجد المجاهد الخطابي نفسه
مضطرا لفتح جبهة حربية أخرى مع فرنسا، رغم أنه كان يحرص على تجنب الاصطدام
بالفرنسيين بل كان يهادنهم بدبلوماسيته المعروفة، ولم يبق أمام الأمير أي
مجال لمواجهة فرنسا، حيث قام بمهاجمة المراكز العسكرية التي احتلتها فرنسا،
ليتمكن في ظرف وجيز من احتلال ستة منها وإلزام الجيش الفرنسي بإخلاء 25
مركزا آخر، وكبر على فرنسا، وهي إحدى الدول العظمى في العالم، أن يتكبد
جيشها هزائم على يد قائد مغربي ”صغير” وزعيم منطقة فقيرة و”متخلفة”، وأصبح
الأمر يمس سمعتها في العالم، الأمر الذي دفعها لكي تنزل بكل ثقلها للقضاء
على المقاومة الريفية الباسلة، بحيث حشدت جيشا قوامه مئات الآلاف، مدججا
بأحدث وسائل القتال، ووجهته نحو جبهة الريف تحت قيادة المارشال ”بيتان”،
الذي سبق له أن أحرز نصرا كبيرا في معركة ”فردان” أثناء الحرب العالمية
الأولى. وبالمقابل، جندت إسبانيا قوات ضخمة لنفس الغاية، وتم استعمال وسائل
عسكرية قذرة ومحظورة، تمثلت في الغازات السامة.
المقاومة وحرب الغازات السامة
يكتسي
موضوع استعمال الغازات السامة من طرف الجيش الإسباني، أهمية بالغة في فضح
خبايا الحرب الاستعمارية القذرة، حيث لجأت قوات الاحتلال الإسبانية إلى عدة
وسائل انتقامية غير نظيفة، كإحراق منتوج القبائل، عن طريق استعمال
الطيران، وإلقاء القنابل دون التفريق بين الأطفال والشيوخ وبين المحاربين،
إضافة إلى الحصار الاقتصادي خاصة في فترات الجفاف، ورغم توجيه المجاهد
الخطابي نداءات متكررة إلى الرأي العام العالمي بخصوص استعمال الغازات
السامة قائلا:
”أيها الأحرار، في مقدرتكم أن تؤنبوا الحكومة
الإسبانية التي استعملت الغاز الخانق سيما على النساء والصبيان والبهائم،
أعجزت إسبانيا عن المقاومة بغير الغاز الخانق؟ إن هذا يمس بكرامتها وكرامة
الأمم المتمدنة… لهذا وإنني بصفتي قائدا عاما للجيوش العاملة في هاته
الناحية، أحتج بكل قوة أمام الحق وأمام الدول الإسلامية والأوروبية”، ومع
ذلك لم يجد هذا النداء آذانا مصغية، ولم تحرك الدول ”المتمدنة” ساكنا.
ومازالت
فضيحة استعمال الغازات السامة المحظورة دوليا، مثار نقاش حاد في المغرب
وإسبانيا، حيث تقدم حزب اليسار الجمهوري الكاتالاني في البرلمان الإسباني،
بمجموعة من المبادرات الهادفة إلى التعريف بالكارثة التي خلفتها الأسلحة
الكيماوية والمواد السامة التي استعملت في معارك الريف الشهيرة.
ورغم
مرور 85 سنة على حرب الريف التحريرية، فإن آثار الأسلحة الكيماوية ماتزال
بادية للعيان، ولا أدل على ذلك من ارتفاع إصابات سكان منطقة الريف على
الخصوص بمرض السرطان، وهذا ما أكدته دراسات علمية وطبية أنجزها متخصصون في
المجال.
بطل الريف (شمال المغرب) محمد بن عبد الكريم الخطابي..
استسلام الشجعان أو النهاية المحتومة
كانت
النهاية إذن محتومة بعد أن استنفذ المستعمر كل ما لديه من قوة وحيلة
ووسائل عسكرية قذرة، فاستسلم المجاهد الخطابي للفرنسيين فجر 27 مايو .1926
ويصف المؤرخ الإنجليزي ”روبرت فورنو” هذه اللحظة في كتابه: ”أمير الريف” في
كلمات مؤثرة قائلا: (كانت جبال الريف خارج بيت الزعيم الخطابي غارقة في
ضوء القمر، وكانت أصداء الحركة تقعقع داخل منزل ابن عبد الكريم، ثم خرج
وامتطى صهوة جواده، كان أخوه يركب خلفه وعيناه مرفوعتان إلى العالي، وعندما
وصل الزعيم إلى بلدة ” تارجيست” عند الفجر، استقبلهم الجنرال (إيبوس) إلى
جانب الكولونيل (كوراب) وحيياه. وفي اليوم التالي لاستسلام القائد البطل،
جيء بأسرته وأقربائه ونقلوا مع ابن عبد الكريم وأخيه ووزرائه الباقين
وأسرهم إلى مدينة تازة حيث أسكنوهم لعدة أيام قبل نقلهم إلى مدينة فاس، ثم
بعد ذلك إلى جزيرة ”لارينيون” بالمحيط الهادي مكان منفاه، حيث قضى أزيد من
عشرين سنة بصحبة أسرته بكاملها). وفي عام ,1947 قررت السلطات الفرنسية نقل
الخطابي وأسرته إلى فرنسا، وعندما دخلت الباخرة التي كانت تقله، إلى قناة
السويس ورست بميناء بورسعيد، التجأ إلى السلطات المصرية فرحبت به القاهرة
ملكا وشعبا.
واستأنف نشاطاته السياسية بمصر، حتى بعد استقلال
المغرب، وكانت له آراء صريحة وشجاعة في كل القضايا التي تهم المغرب العربي،
وحرص السلطان محمد الخامس رحمه الله على زيارته بالقاهرة ليعرب له عن
التقدير الذي يكنه له، وليدعوه إلى الرجوع إلى وطنه، ولكن الأقدار الإلهية
أبت إلا أن يقضي هذا المجاهد نحبه في مدينة القاهرة يوم 11 رمضان 1383هـ،
الموافق 6 نونبر 1963م، وشيعت جنازته في موكب رسمي، كانت في مقدمته شخصيات
رسمية من الحكومة المصرية، على رأسها جمال عبد الناصر، وزعماء حركة استقلال
الشمال الإفريقي.
إن مسألة نقل الرفات تهم جميع المغاربة بدون استثناء،
والكل يأمل في أن تقوم الدولة والحكومة المغربيتان بإقامة حفل وطني كبير
تكريمي يليق بالأمير وإخوانه، وبتاريخهم النضالي والجهادي، إحياء للذاكرة
التاريخية للمنطقة، وإعادة الاعتبار تنمويا لمنطقة الريف وساكنتها، عن طريق
فك العزلة عنهما، و الإسراع بإحداث متحف يؤرخ للمقاومة الريفية، ويصون
ذاكرة المغاربة، إضافة إلى ترميم وإصلاح مقر القيادة الريفية، الموجود
بأجدير مسقط رأس المجاهد الخطابي.
لقد غادرنا أمير المجاهدين محمد بن عبد الكريم بجسده، لكن روحه وفكره وعبقريته ظلت سراجا مضيئا لنا كمغاربة خاصة وللإنسانية جمعاء.
رحمك الله يا اسد الريف واسكنك
و جميع المجاهدين فسيح جناته