مريم بنت عمران
«إذ
قالت امرأة عمران رب إنى نذرت لك ما في بطنى محرراً فتقبل منى إنك أنت
السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى وليس الذكر كالانثى
وإنى سميتها مريم، وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» أناس من
الناس لهم أثره عند الله، ومقام محمود بين خلق الله، فهم في نشأتهم محوطون
بالرعاية وفي حياتهم مشمولون بالعناية والهداية ولم تكن حياتهم لأنفسهم بل
كانوا مثلاً يهتدى بهديهم ويسار على نهجهم ثم غدت ذكراهم من بعد .
كالمصابيح
تضيء للإنسانية معابر الحياة إذا التوت عليها الطرقات وتبصرها مسالك
الرشاد إذا خيمت على الدنيا ضلالة أو رانت على البصائر ظلمة الشهوات.
فهم
في الحياة وبعد الممات كالمعالم الوضاءة في مراحل الزمن وأولئك هم الهداة
المهتدون وهم السابقون وإنما أضفي عليهم ربك من فيضه وآثرهم بالمزيد من حبه
لسبق علمه بأنهم الأصفياء والأبرار وهم الأوفياء والأنصار فهم دائماً في
جنب الله يحمدونه على النعماء في السراء ويصبرون على بلائه في الضراء.
فلا
تستكثر عليهم ذلك ولا تقل : لم لم يكن كل الناس كذلك؟ فربك عليم بخلقه
وحكيم في أمره يخلق ما يشاء ويختار وليس لك إلا أن تؤمن طائعاً بالحق وأن
تسلك سبيل الحق ولعلك بهديهم واصل إلى منازلهم أو مقترب: ورحمة الله قريب
من المحسنين.
وهذه مريم ابنة عمران دوحة كريمة في منبت كريم وفرع شامخ من اصل راسخ.
ذكرها
نبينا محمد - صلوات الله عليه - أول نسوة أربع أحرزن من المجد ما لم يتح
لغيرهن فقال: «أربع نسوة سادت عالمهن : مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم،
زوجة فرعون المؤمنة التى شهد لها القرآن. وخديجة بنت خويلد. وفاطمة بنت
محمد».وأن القرآن ليرفع من قدرها ويضاعف من شأنها ويردد من ذكرها حتى
ليجعلها فوق ما يتصور المتصورون.
فأيه يا امرأة عمران.. لقد تقدم بك
السن، وكاد يتخلف عنك الحظ في الذرية ولكنك ذات صلة بربك فاسأليه أن يمنحك
ذرية تطيب نفسك لها وتقرين عينا بها ولكن امرأة عمران تبتغى الذرية لتتخذ
منها زلفى إلى ربها فتسأله ما يشوقها ثم يكون من امارات القرب إلى الله أن
يتقبل دعاءها وإنما يتقبل الله من المتقين.
ولما أحست بالجنين توقعته
غلاماً وتعلق أملها أن تهبه للعبادة وتحرره من قيود البنوة، وتتخلى عن
أنسها به ليتفرغ للعبادة وملازمة المعبود على عادة البررة من أهل زمانها
وقد استجاب الله لها فحملت بعدما كادت تيأس فإن الأمل ليقوى أن يكون الحمل
غلاماً ليتم لها تحريره وهى لذلك تبادر بالعهد على نفسها وتقول: «رب انى
نذرت لك ما في بطنى محرراً فتقبل منى إنك أنت السميع العليم».
ولكن
امرأة عمران تفاجأ بغير ما تمنت أنثى لا ذكراً ويخالجها أسف كثير لفوات
الأمل في المولود فإن الأنثى لا تبلغ من الصلاحية للتحرير ما يبلغه الذكر
ولم يكن من عادتهم تحرير البنات للعبادة والمعابد.
ولأن عدم تحقيق
الأمنية قد يثير عندها من وجل الأتقياء ما يشككها في منزلتها عند الله بعد
أن قوى الرجاء في ذلك منذ حملت بعد يأس فهى تضرع إلى ربها في لهجة الأوابين
وخشوع المتذللين وتجأر بالمعذرة عن فوات مقصودها وإن لم يكن ذلك من عملها
وتقول «رب انى وضعتها أنثى» وتقول:«وليس الذكر كالأنثى» أى ليسا سواء في
المنزلة وتعلق الرجاء بهما ثم تركن إلى ربها فيما بقى لها من أمل فتقول
:«وانى سميتها مريم عابدة وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم».
هذه
نجوى امرأة عمران إلى ربها ومبلغ الأمل في وليدتها أن يحفظها من غمزات
الشيطان وهمزاته لتكون مؤمنة تقية وعابدة وفية وطاهرة نقية ويكون فيها عوض
لها عن الغلام الذى كانت تأمله.
وكأن امرأة عمران حينما آسفها وضع
الأنثى فاتها أن الله سبحانه يستجيب دعاء الأتقياء على مقتضى علمه وحكمته
وليس حتماً أن يكون على وفق رغباتهم ولا مسايراً لألفاظهم فهو لا يبخل
عليهم بفضله ولكنه يعطيهم من جوده ما فيه خير لهم ولو كان غير مأربهم وربما
كان أزكى مما تعلقوا به وذلك الفضل من الله فهى تصبو إلى الولد الذكر
والله يعطيها الأنثى.
وهى تقنع نفسها بعطائه وترجع إلى الرضا بقضائه
وتستعيذ بالله لأنثاها ولذريتها من الشيطان الرجيم.. فماذا كان من أثر
الدعوات لها وماذا كان من شأن مريم وقد استقبلتها أمها كما تستقبل كل امرأة
بنتها؟
«فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتاً حسناً، وكفلها زكريا»
حسبك يا امرأة عمران أنك أخلصت لله النية فيما نذرت وأنك اتجهت إلى الله
فيما دعوت فإن للمخلصين رجاء موصولاً ودعاء مقبولاً وقد فاض قلبك بالرجاء
ولهج لسانك بالدعاء حينما أودعت مريم بيت المقدس واثقة أن الله سيعيذها
وذريتها من الشيطان الرجيم.
أما مريم فقد انبثق حولها نور جديد وظهر من
مكنون الغيب ما سبقت به كل امرأة قبلها وبعد ذلك أن الملائكة نزلت عليها
بوحى من عند الله ولم يعهد الناس أن الملائكة تنزل على غير الأنبياء من
الرجال ''واذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء
العالمين. يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين».
فهذا وحى
سماوى يؤكد لمريم وللناس في شأنها ما رأوا بعضه رأى العين وعرفوه حق اليقين
فاصطفاء وتطهير، واصطفاء آخر وتكليف بالقنوت - وهو مداومة العبادة -
وبالركوع والسجود وهو المحافظة على الصلاة تلك توجيهات يؤثر الله بها مريم
وفي جملتها وتفصيلها ايذان بأن مريم وقد اصطفاها ربها للعبادة وطهرها من
المآثم والنقائص واصطفاها لأمر آخر ستتمخض عنه الأيام لابد أن تكون إنسانة
كاملة كمالاً يربأ بها عن الدنو من الشبهات أو يتسامى بها أن تكون حصاة
لألسن السفهاء.
فإن تكن مريم في حساب الناس فتاة من الفتيات فهى في إطار
عجيب من الخصائص الربانية التى اكتنفتها منذ اشراقتها الأولى إلى أن طوت
صفحتها الكريمه في الدنيا على شيء من القصص الحق. وهذه منزلة رضيها لها من
اصطفاها على نساء العالمين