سمعت صوت النسيم يقول ذلك الكلام ، في مكان لم تطأه أقدام البشر ، ما بين السكون والنور، حيث أرتفع صوته قائلاً :
أنا
النسيم الذي يسري في أعنان الوجود ، أنتقل بين عوالم الحياة ، لست منقاداً
لأحد كما تنقاد نفوس البشرية لسحر المظاهر الخداعة ، أطوف حول العالمين لا
يغنيني شيء عن الحياة التي أتخذها بنو البشر ملاذ يشبعون فيها مجاعتهم
الدنيوية ، إني النسيم الذي يداعب أفلاك الوجود صباحاً ومساءاً ، أغمر في
الصباح أريج الزهور ، أعتنق أنفاس الزنابق ، وأذوب في تنهيدة البنفسجة ،
وفي المساء ، أحلق بوداعة صوب الممتحنين ، ألامس جباههم البائسة ، أطوي
عنهم بعض الألم ، هكذا عشت تلك السنين منذ وجدت البشرية ... وفي يوم كنت
ذاهبة صوب مرامي مسيري المجهول ، أعترضتني إنفاس أحد النفوس المتضخمة بحب
الذات ، أحد الأرواح التي تسكن جسد مملوء بالوحشية ، قادني حظي السيء لأن
أكون أحد تلك الأنفاس التي تتلقفها رئتيه ، دخلت رغم عني هناك ، لمحت في
قلبه عشق المظاهر ، إحسست في ذاته دناءة البشرية ، كانت خفقات قلبه تنم على
حقد دفين على كل شيء ، لا ينظر إلى الفقير سوى بنظرات الوضاعة ، وإلى
الغني بأكبار ، وإلى الطيب باستحقار ، وإلى القاسي بالشخص الوقور ،تساءلت
مع نفسي ومع باقي أخواتي النسمات التي أجتمعن داخل هذا الوحش البشري ، فقلت
لهن ، يا أخوتي أني لا أطيق البقاء داخل هذا المخلوق العابث للحظات ،
فلهمن نخرج ونحيا بعيداً عن أنفاس البشرية ، لأني وجدت الحقد في الداني
والقاصي من روحه ، يا إيتها النسمات التي تداعب مسارح الياسمين عند الربيع ،
وتجاور بكاء الأوراق عند الخريف ، وترقص مع قطرات المطر شتاءاً هلمن نتحرر
ونحيا بعيداً عن هنا .. حتى أقبلت أحدى أخواتي النسمات وقالت : هوني عليكِ
فهذا قضاء ربنا أن نكون اليوم هنا وغدا في مكان يعلمه الله ، دعينا نكمل
ما تبقى لنا في جوف هذا المخلوق لنشهد نهاية هذا المخلوق الذي يظن أنه خالد
بخلود جحود روحه الطافحة من أعماق رذاذ الفحش والمنكر ! قررنا جميعا أن
نرى النهاية ، عشنا هناك وقتاً عصيباً ، لكنا جميعاً بصمتنا ننتظر نهايته
المحتمة ، يا ترى كيف ظن أنه خالد ، وأن الجموح في أحتقاب الأموال ،
والتشدق بجماله الفاني ، سيجعله سامي في لحظات موراة جسده تحت التراب ؟ هل
يظن أنه باقِ إلى الأبد في كنف الحياة الذواية ؟ كنا جميعاً نتساءل ، أنا
وأخواتي النسمات ، لما البشر يقتلون البسمة في شفاه السعادة ، يقلقون مضاجع
الفقراء بكلماتهم القاسية ! يسرقون ما ليس لهم ، يعبثون في الحياة التي
أنجبتهم ودفعتهم بكل الحب ليكونوا أحد عمارها لا محطميها ؟ بقينا على هذا
الحال إلى أن جاء الفرج وأنقشع الضباب من أمام عيوننا ، فعلمنا أنه سوف
يموت بعد مدة ، أخذت تتلاطم أحشاءه ، تتخبط أفكاره ، كأنه يحاول إصلاح ما
أنكره في لحظات مجده وعليائه ، لا أحد يشفع إليه سوى الموت ، لا جبروت ولا
عظمة أو مال هكذا عاش كبير في مرآته ، صغير في عين الوجود؟ أخذت أجزاء جسده
بالبرود ، فخرجن نحن النسمات فرحين مغتبطين من ذلك الجسد ، هربت أخواتي
النسمات لمغاني الوجود باحثة عن مثوى يليق بمقامها ! أما أنا كنت أنتظر
موارة ذلك الجسد ، ذلك الجسد الذي ظل يعبث وينتهي عن الخير ، ها هو اليوم
جثه هامدة بلا حراك ، أقتربت منه، فوجدت كل شيء إحاطه يعلن وجوده ، ذراري
التراب التي تهال عليه ، والنسمات العابرة ، والأشجار والطيور والسماء
والنجوم والورود ، والحفرة التي وضع فيها ، كنت أراقب بصمت مطبق ، حتى
تلاشى تحت التراب ثم هدأ روع الوجود ، رحل ذلك الإنسان تحت التراب ولن يبق
له ذكر بعد مرور أيام ، فما أصغرك أيتها النفس البشرية وما أعظم أماني
وجودك ، ظننتي الوجود مقرون بالأبدية فلنتي الموت رغم عنك ، وكأنك تناسيتي
أن هناك عقاب وحساب ، وقبر يوراي ذرات جسدك البالية ؛ ثم تطفنت لأقتراب
موعد ذهابي من هناك، حلقت بعيداً عن ذلك المكان ، باحثة عن مكان أستظل به ،
حيث لا نفس بشرية تمتشق وجودي ، ولا صور موحشة تعتري خوافق عيشي ، حلقت
بعيداً وشكرت الرب لأنه أكرمني وجعلني أكون نسمة ناعمة بالحياة لا نفس
بشرية قذرة يورايها التراب ويحصدها العقاب جراء افعالها ومنتهى مرادها .