فارسة الأحلام مشرفة على قسم
الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 895 نقاط : 6909 تاريخ التسجيل : 22/12/2010
| موضوع: أبو الطيب المتنبي الأربعاء 18 يناير - 20:00:04 | |
| أبو الطيب المتنبيهو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد أبو الطيب الكوفي المولد ، ولد سنة 303 هـ ( [1])، وعاش أفضل ايام حياته واكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان أحد أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء. وهو شاعرحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك. ويقولون عنه بانه شاعر اناني ويظهر ذلك في اشعاره. ترك تراثاً عظيماً من الشعر، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير. قال الشعر صبياً. فنظم أول اشعاره وعمره 9 سنوات. اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً.
صاحب كبرياء وشجاع وطموح ومحب للمغامرات. وكان في شعره يعتز بعروبته، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني.
شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض اصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في دهوك فلم يستمع له وإنما أجابه ً: أبا عبد الإله معاذ أني. إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن. معتحيات كضبري
الفقرات الموجودة:
1 المتنبي وسيف الدولة الحمداني
- 1.1 خيبة الأمل وجرح الكبرياء
2 المتنبي وكافور الإخشيدي 3 شعره وخصائصه الفنية 4 أغراضه الشعرية 4.1 المدح 4.2 الوصف 4.3 الفخر 4.4 الهجاء 4.5 الحكمة
5 مقتله
|
المتنبي وسيف الدولة الحمداني
ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 هـ، واتصل بسيف الدولة بن حمدان، أمير وصاحب حلب، سنة 337 هـ وكانا في سن متقاربه، فوفد عليه المتنبي وعرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا وأصبح المتنبي من شعراء بلاط سيف الدولة في حلب، وأجازه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة وقربه إليه فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام، وخاض معه المعارك ضد الروم، وتعد سيفياته أصفى شعره. غير أن المتنبي حافظ على عادته في أفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحة، فكان أن حدثت بينه وبين سيف الدولة جفوة وسعها كارهوه وكانوا كثراً في بلاط سيف الدولة.
ازداد أبو الطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة في حلب أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء في حلب. وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة حلب العربية الذي يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.
وفي المواقف القليلة التي كان المتنبي مضطرا لمراعاة الجو المحيط به، فقد كان يتطرق إلى مدح آباء سيف الدولة في عدد من القصائد، ومنها السالفة الذكر، لكن ذلك لم يكن إعجابا بالأيام الخوالي وإنما وسيلة للوصول إلى ممدوحه، إذ لا يمكن فصل الفروع عن جذع الشجرة وأصولها كقووله
من تغلب الغالبين الناس منصبه | | ومن عدّي أعادي الجبن والبخل | خيبة الأمل وجرح الكبرياء
أحس بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر والأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما. وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالويه عليه بحضور سيف الدولة حيث رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة، فلم ينتصف له سيف الدولة، ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها: (لا تطلبن كريماً بعد رؤيته). بعد تسع سنوات ونصف في بلاط سيف الدولة جفاه الأمير وزادت جفوته له بفضل كارهي المتنبي ولأسباب غير معروفة قال البعض أنها تتعلق بحب المتنبي المزعوم لخولة شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها، وكان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك. إنكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي.
فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلب، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة وبعد ترحاله في بلاد عديده بقي سيف الدولة في خاطر ووجدان المتنبي.
المتنبي وكافور الإخشيدي
الشخص الذي تلا سيف الدولة الحمداني أهمية في سيرة المتنبي هو كافور الإخشيدي. فقد فارق أبو الطيب حلباً إلى مدن الشام ومصر وكأنه يضع خطة لفراقها ويعقد مجلساً يقابل سيف الدولة. من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي. دفع به للتوجه إلى مصر حيث (كافور الإخشيدي). وكان مبعث ذهاب المتنبي إليه على كرهه له لأنه طمع في ولاية يوليها إياه. ولم يكن مديح المتنبي لكافور صافياً، بل بطنه بالهجاء والحنين إلى سيف الدولة الحمداني في حلب، فكان مطلع أول قصيدته مدح بها كافور:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً | | وحسب المنايا أن يكن أمانيا | فكأنه جعل كافورا الموت الشافي والمنايا التي تتمنى ومع هذا فقد كان كافور حذراً، فلم ينل المتنبي منه مطلبه، بل إن وشاة المتنبي كثروا عنده، فهجاهم المتنبي، وهجا كافور ومصر هجاء مرا ومما نسب إلى المتنبي في هجاء كافور:
لا تشتري العبد إلا والعصا معه | | إن العبيد لأنجــاس مناكــيد |
نامت نواطير مصر عن ثعالبها | | وقد بشمن وما تفنى العناقيد |
لا يقبض الموت نفسا من نفوسهم | | إلا وفي يده من نتنها عود |
من علم الأسود المخصي مكرمة | | أقومه البيض أم آباؤه السود |
أم أذنه في يد النخاس دامية | | أم قدره وهو بالفلسين مردود | و استقر في عزم أن يغادر مصر بعد أن لم ينل مطلبه، فغادرها في يوم عيد، وقال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور وحاشيته، والتي كان مطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد | | بما مضى أم لأمر فيك تجديد | ويقول فيها أيضا:
إذا أردت كميت اللون صافية | | وجدتها وحبيب النفس مفقود |
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه | | أني لما أنا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ | وفي القصيدة هجوم شرس على كافور وأهل مصر بما وجد منهم من إهانة له وحط منزلته وطعنا في شخصيته ثم إنه بعد مغادرته لمصر قال قصيدةً يصف بها منازل طريقه وكيف أنه قام بقطع القفار والأودية المهجورة التي لم يسلكها أحد قال في مطلعها:
ألا كل ماشية الخيزلى | | فدى كل ماشية الهيدبى |
وكل ناجة بجاوية | | خنوف وما بي حسن المشى |
فذكر في قصائده بعض المدن والمواضع الواقعة ضمن الحدود الإدارية لدُومة الجندل، والتي منها: طُردت من مصر أيديها بأرجلها حتى مرقن بنا من جوشٍ والعلم وقال أيضاً: وجابت بُسيطة جوب الرَّداء بين النَّعَام وبين المها إلى عُقدة الجوف حتى شَفَت بماء الجِرَأوِيَ بعض الصدا ولاحَ لها صورٌ والصَّبَاح ولاحَ الشَّغور لها والضَّحَا
وقال أيضاً: بُسيطة مهلاً سُقيت القطارا تركت عيون عبيدي حيارا فظنوا النعام عليك النخيل وظنوا الصوار عليك المنارا فأمسك صحبي بأكوارهم وقد قصد الضحك منهم وجارا
وقال يصف ناقته:
ضربت بها التيه ضرب القمار | | إما لهذا وإما لذا |
لإذا فزعت قدمتها الجياد | | وبيض السيوف وسمر القنا | وهي قصيدة يميل فيها المتنبي إلى حد ما إلى الغرابة في الألفاظ ولعله يرمي بها إلى مساواتها بطريقه. لم يكن سيف الدولة وكافور هما من اللذان مدحهما المتنبي فقط، فقد قصد امراء الشام والعراق وفارس. وبعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت له معه مساجلات. ومدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز وذالك بعد فراره من مصر إلى الكوفة ليلة عيد النحر سنة 370 هـ.
شعره وخصائصه الفنية
شعر المتنبي كان صورة صادقة لعصره، وحياته، فهو يحدثك عما كان في عصره من ثورات، واضطرابات، ويدلك على ما كان به من مذاهب، وآراء، ونضج العلم والفلسفة. كما يمثل شعره حياته المضطربة: فذكر فيه طموحه وعلمه، وعقله وشجاعته، وسخطه ورضاه، وحرصه على المال، كما تجلت القوة في معانيه، وأخيلته، وألفاظه، وعباراته.وقد تميز خياله بالقوة والخصابة فكانت ألفاظه جزلة، وعباراته رصينة، تلائم قوة روحه، وقوة معانيه، وخصب أخيلته، وهو ينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة.ويقول الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه في الادب والفن ان المتنبي يعتبر وبحق شاعر العرب الأكبر عبر العصور.
أغراضه الشعرية
المدح
الإخشيدي، ومفاسده في سيف الدولة وفي حلب تبلغ ثلث شعره أو أكثر، وقد استكبر عن مدح كثير من الولاة والقاده حتى في حداثته. ومن قصائده في مدح سيف الدولة:
| | وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف | | كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم | تمـر بك الأبطال كَلْمَى هزيمـةً | | ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم | تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى | | إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم | و كان مطلع القصيدة:
| | عَـلَى قَـدرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ | | وتَــأتِي عَـلَى قَـدرِ الكِـرامِ المَكـارِم | وتَعظُـم فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُها | | وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ | الوصف
أجاد المتنبي وصف المعارك والحروب البارزة التي دارت في عصره وخاصة في حضرة وبلاط سيف الدولة، فكان شعره يعتبر سجلاً تاريخياً. كما أنه وصف الطبيعة، وأخلاق الناس، ونوازعهم النفسية، كما صور نفسه وطموحه. وقد قال يصف شِعب بوَّان، وهو منتزه بالقرب من شيراز :
| | لها ثمر تشـير إليك منـه | | بأَشربـةٍ وقفن بـلا أوان | وأمواهٌ يصِلُّ بها حصاهـا | | صليل الحَلى في أيدي الغواني | إذا غنى الحمام الوُرْقُ فيها | | أجابتـه أغـانيُّ القيـان | الفخر
وكان الشاعر يفتخر في نفسة أو في الملوك في بعض من أبياته الشعرية فمن أبياتة :
| | لاتجسر الفصحاء تنشد ههنا | | بيتا، ولكني الهزبر الباسل | مانال اهل الجاهلية كلهم | | شعري ولا سمعت بسحري بابل | واذا اتتك مذمتي من ناقص | | فهي الشهادة لي بأني كامل | وتلك الابيات في قصيدة...
| | أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي | | و أسمعت كلماتي من به صمم | أنام ملء جفوني عن شواردها | | ويسهر الخلق جراها ويختصم | و جاهل مده في جهله ضحكي | | حتى أتته يد فراسة وفم | إذا رأيت نيوب الليث بارزة | | فلا تظنن أن الليث يبتسم | و مهجة مهجتي من هم صاحبها | | أدركته بجواد ظهره حرم | رجلاه في الركض رجل و اليدان يد | | وفعله ماتريد الكف والقدم | ومرهف سرت بين الجحفلين به | | حتى ضربت و موج الموت يلتطم | الخيل والليل والبيداء تعرفني | | والسيف والرمح والقرطاس و القلم | الهجاء
لم يكثر الشاعر من الهجاء. وكان في هجائه يأتي بحكم يجعلها قواعد عامة، تخضع لمبدأ أو خلق، وكثيراً ما يلجأ إلى التهكم، أو استعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها، وتشيع حولها جو السخرية بمجرد الفظ بها، كما أن السخط يدفعه إلى الهجاء اللاذع في بعض الأحيان. وقال يهجو طائفة من الشعراء الذين كانوا ينفسون عليه مكانته:
| | أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعرٌ | | ضعيف يقاويني، قصير يطاول | لساني بنطقي صامت عنه عادل | | وقلبي بصمتي ضاحكُ منه هازل | وأَتْعَبُ مَن ناداك من لا تُجيبه | | وأَغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكل | وما التِّيهُ طِبِّى فيهم، غير أنني | | بغيـضٌ إِلىَّ الجاهـل المتعاقِـل |
| | من أية الطرق يأتي نحوك الكرم | | أين المحاجم ياكافور والجلم | جازا الأولى ملكت كفاك قدرهم | | فعرفوا بك أن الكلب فوقهم | لا شيء أقبح من فحل له ذكر | | تقوده أمة ليست لها رحم | سادات كل أناس من نفوسهم | | وسادة المسلمين الأعبد القزم | أغاية الدين أن تحفوا شواربكم | | يا أمة ضحكت من جهلها الأمم | ألا فتى يورد الهندي هامته | | كما تزول شكوك الناس والتهم | فإنه حجة يؤذي القلوب بها | | من دينه الدهر والتعطيل والقدم | ما أقدر الله أن يخزي خليقته | | ولا يصدق قوما في الذي زعموا | الحكمة
اشتهر المتنبي بالحكمة وذهب كثير من أقواله مجرى الأمثال لأنه يتصل بالنفس الإنسانية، ويردد نوازعها وآلامها. ومن حكمه ونظراته في الحياة:
| | ومراد النفوس أصغر من أن | | نتعادى فيـه وأن نتـفانى | غير أن الفتى يُلاقي المنايـا | | كالحات، ولا يلاقي الهـوانا | ولـو أن الحياة تبقـى لحيٍّ | | لعددنا أضلـنا الشجـعانا | وإذا لم يكن من الموت بُـدٌّ | | ةىةوان تموت جبانا | كذلك يقول:
| | خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به | | في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل | والهجر أقتل لي مما اراقبه | | أنا الغريق فما خوفي من البلل | بركان الشلح
مقتله
كان المتنبي قد هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدة شديدة مطلعها:
مَا أنْصَفَ القَوْمُ ضبّهْ | | وَأُمَّهُ الطُّرْطُبّهْ |
وَإنّمَا قُلْتُ ما قُلْـ | | ـتُ رَحْمَةً لا مَحَبّهْ | فلما كان المتنبي عائدًا يريد الكوفة، وكان في جماعة منهم ابنه محشد وغلامه مفلح، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو خال ضبّة، وكان في جماعة أيضًا. فاقتتل الفريقان وقُتل المتنبي وابنه محشد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول غربيّ بغداد.
قصة قتله أنه لما ظفر به فاتك... أراد الهرب فقال له ابنه... اتهرب وأنت القائل
الخيل والليل والبيداء تعرفني | | والسيف والرمح والقرطاس والقلم | فرد عليه بقوله قتلتني قتلك الله
أختلف الشعراء و المؤرخين في من قال للمتنبي البيت الذي قتله أهو إبنه أم غلامه و لكنهم إستقروا علي أنه غلامه
سيرة أخرى للأبو الطيب المتنبي :
نبذة عن المتنبي فلسفة الحياة لدى شاعر الحكمة والطموح
أبو الطيب المتنبي، أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، صاحب كبرياء وشجاع طموح محب للمغامرات. في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني. لنتعرف على هذا الشاعر العظيم ونقترب أكثر من سيرة حياته:
ظهور الموهبة الشعرية:
هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي. ولد في كندة بالكوفة سنة 303 هـ=915 م. وتقع حالياً على مسافة عشرة كيلومترات من النجف وخمسة وستون من كربلاء تقريباً. يقال إن والده الحسين سماه أحمد و لقبه بأبي الطيب، ويقال إنه لم يعرف أمه لموتها وهو طفل فربته جدته لأمه. قضى طفولته في كندة (304-308 هـ= 916-920م)، اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً، فقال الشعر صبياً، وهو في حوالي العاشرة، وبعض ما كتبه في هذه السن موجود في ديوانه. في الثانية عشر من عمره رحل إلى بادية السماوة، أقام فيها سنتين يكتسب بداوة اللغة العربية وفصاحتها، ثم عاد إلى الكوفة حيث أخذ يدرس بعناية الشعر العربي، وبخاصة شعر أبي نواس وابن الرومي ومسلم بن الوليد وابن المعتز. وعني على الأخص بدراسة شعر أبي تمام وتلميذه البحتري. انتقل إلى الكوفة والتحق بكتاب (309-316 هـ=921-928م) يتعلم فيه أولاد أشراف الكوفة دروس العلوية شعراً ولغة وإعراباً. اتصل في صغره بأبي الفضل في الكوفة، وكان من المتفلسفة، فهوسه وأضله. كان أبو الطيب سريع الحفظ، فقيل أنه حفظ كتاباً نحو ثلاثين ورقة من نظرته الأولى إليه.
من البادية إلى السجن:
لم يستقر أبو الطيب في الكوفة، اتجه خارجاً ليعمق تجربته في الحياة وليصبغ شِعره بلونها، أدرك بما يتملك من طاقات وقابليات ذهنية أن مواجهة الحياة في آفاق أوسع من آفاق الكوفة تزيد من تجاربه ومعارفه، فرحل إلى بغداد برفقة والده، وهو في الرابعة عشرة من عمره، قبل أن يتصلب عوده، وفيها تعرف على الوسط الأدبي، وحضر بعض حلقات اللغة والأدب، ثم احترف الشعر ومدح رجال الكوفة وبغداد. غير أنه لم يمكث فيها إلا سنة، ورحل بعدها برفقة والده إلى بادية الشام يلتقي القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم و يمدحهم، فتقاذفته دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص. دخل البادية فخالط الأعراب، وتنقل فيها يطلب الأدب واللغة العربية وأيام الناس، وفي بادية الشام التقي القبائل والأمراء، اتصل بهم ومدحهم، وتنقل بين مدن الشام يمدح شيوخ البدو والأمراء والأدباء. قيل أنه تنبأ في بادية السماوة بين الكوفة والشام فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد، فأسره وسجنه سنة 323-324 هجرية، حتى تاب ورجع عن دعواه. كان السجن علامة واضحة في حياته وجداراً سميكاً اصطدمت به آماله وطموحاته، فأخذ بعد خروجه منه منهك القوى يبحث عن فارس قوى يتخذ منه مساعداً لتحقيق طموحاته. عاد مرة أخرى يعيش حياة التشرد والقلق، فتنقل من حلب إلى أنطاكية إلى طبرية.
شاعر لا يقل عن الأمير منزلة:
وفيها التقى ببدر بن عمار سنة 328 هجرية، وهو أول من قتل أسداً بالسوط، فنعم عنده حقبة من الزمن، راضياً بما لقيه عنده من الراحة بعد التعب والاستقرار بعد التشرد، إلا أنه أحس بالملل في مقامه وشعر بأنه لم يلتق بالفارس الذي كان يبحث عنه والذي يشاركه في ملاحمه وتحقيق آماله. فعاوده الضجر الذي ألفه والقلق الذي لم يفارقه، فسقم من حياة الهدوء ووجد فيها ما يستذل كبرياءه. فهذا الأمير يحاول أن يتخذ منه شاعراً متكسباً كسائر الشعراء، وهو لا يريد لنفسه أن يكون شاعر أمير، وإنما يريد أن يكون شاعراً فارساً لا يقل عن الأمير منزلة. فلم يفقده السجن كل شيء لأنه بعد خروجه منه استعاد إرادته وكبرياءه. فالسجن أسهم في تعميق تجربته في الحياة، وتنبيهه إلى أنه ينبغي أن يقف على أرض صلبة لتحقيق ما يريده من طموح. لذلك أخذ يبحث عن نموذج الفارس القوي الذي يشترك معه لتنفيذ ما يرسمه في ذهنه. أما بدر فلم يكن هو ذاك، ثم ما كان يدور بين حاشية بدر من الكيد لأبي الطيب ومحاولة الإبعاد بينهما، جعل أبا الطيب يتعرض لمحن من الأمير ومن الحاشية تريد تقييده بإرادة الأمير. لقد رأى ذلك إهانة وإذلالاً، عبّر عنه بنفس جريحة ثائرة بعد فراقه لبدر متصلاً بصديق له هو أبو الحسن علي بن أحمد الخراساني في قوله : لا افتخار إلا لمن لا يضام. وعاد المتنبي بعد فراقه لبدر إلى حياة التشرد والقلق ثانية، وعبر عن ذلك أصدق تعبير في رائيته التي هجا بها ابن كروس الأعور أحد الكائدين له عند بدر.
الاندفاع المخلص نحو سيف الدولة:
ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 ه، وعن طريقه اتصل بسيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب، سنة 337 ه، انتقل معه إلى حلب فمدحه وحظي عنده. في مجلس هذا الأمير وجد أفقه وسمع صوته، وأحس أبو الطيب بأنه عثر على نموذج الفروسية الذي كان يبحث عنه، وسيكون مساعده على تحقيق ما كان يطمح إليه، فاندفع الشاعر مع سيف الدولة يشاركه في انتصاراته. ففي هذه الانتصارات أروع ملاحمه الشعرية، استطاع أن يرسم هذه الحقبة من الزمن وما كان يدور فيها من حرب أو سلم، فانشغل انشغالاً عن كل ما يدور حوله من حسد وكيد، ولم ينظر إلا إلى صديقه وشريكه سيف الدولة. فلا حجاب ولا واسطة بينهما. شعر سيف الدولة بهذا الاندفاع المخلص من الشاعر، واحتمل منه ما لا يحتمل من غيره من الشعراء، وكان هذا كبيراً على حاشية الأمير. ازداد أبو الطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة استطاع أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء. وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة عربية يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.
خيبة الأمل وجرح الكبرياء:
وهذا ما كان يغري حساده به فيستغلونه ليوغروا صدر سيف الدولة عليه حتى أصابوا بعض النجاح. وأحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر وصديقه الأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما. وأحس أبو الطيب بأن السقف الذي أظله أخذ يتصدع، وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالوية عليه بحضور سيف الدولة ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 ه ومنها: لا تطلبن كريماً بعد رؤيته. فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلباً، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة من مصر حتى كادت الصلة تعود بينهما.
الممدوح الجديد:
فارق أبو الطيب حلباً إلى مصر وفي قلبه غضب كثير، وكأنه يضع خطة لفراقها ثم الرجوع إليها كأمير عاملاً حاكماً لولاية يضاهي بها سيف الدولة، ويعقد مجلساً يقابل سيف الدولة. من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي وأظنه هو أقوى الدوافع. دفع به للتوجه إلى مصر حيث كافور الذي يمتد بعض نفوذه إلى ولايات بلاد الشام. في مصر واجه بيئة جديدة ومجتمعاً آخر وظروفاً اضطرته إلى أن يتنازل في أول الأمر عما لم يتنازل عنه. ثم هو عند ملك لا يحبه، ولم يجد فيه البديل الأفضل من سيف الدولة إلا أنه قصده آملاً، ووطن نفسه على مدحه راضياً لما كان يربطه في مدحه من أمل الولاية، وظل صابراً محتملاً كل ذلك. وأخذ يخطط إلى أمله الذي دفعه للمجيء إلى هنا، ويهدأ كلما لاح بريق السعادة في الحصول على أمله، وهو حين يراوده نقيض لما يراه من دهاء هذا الممدوح الجديد ومكره يحس بالحسرة على فراقه صديقه القديم. في هذه البيئة الجديدة أخذ الشعور بالغربة يقوى في نفسه بل أخذ يشعر بغربتين غربته عن الأهل والأحبة، وعما كان يساوره من الحنين إلى الأمير العربي سيف الدولة. ويزداد ألمه حين يرى نفسه بين يدي غير عربي، إلا أنه حين يتذكر جرح كبريائه يعقد لسانه ويسكت. وغربته الروحية عمن حوله والتي كان يحس بها في داخله إحساساً يشعره بالتمزق في كثير من الأحيان. وظل على هذا الحال لا تسكته الجائزة، ولا يرضيه العطاء، وظل يدأب لتحقيق ما في ذهنه ويتصور أنه لو حصل عليها لحقق طموحه في مجلس كمجلس سيف الدولة تجتمع فيه الشعراء لمدحه، فيستمع لمديحه وإكباره على لسان الشعراء، بدلاً من أن يؤكد كبرياءه هو على لسانه. ولربما كان يريد إطفاء غروره بهذا. إلا أن سلوكه غير المداري وعفويته مثلت باباً سهلاً لدخول الحساد والكائدين بينه وبين الحاكم الممدوح، ثم حدته وسرعة غضبه وعدم السيطرة على لسانه. كان كل ذلك يوقعه في مواقف تؤول عليه بصور مختلفة وفق تصورات حساده ومنافسيه. وأكاد أعتقد أنه كان مستعداً للتنازل عن كل جوائزه وهباته لمن كان يتصور أنه كان يريد أن يتربع على عرش الشعر من أجل جائزة كافور وعطائه، ثم يصوره بصورة تشوه إحساسه وتزور مشاعره. وذلك هو الذي يغيظه ويغضبه ويدفعه إلى التهور أحياناً وإلى المواقف الحادة. كل ذلك يأخذ طابعاً في ذهن الحاكم مغايراً لما في ذهن الشاعر.
صريح في الرضا والسخط:
بدأت المسافة تتسع بينه وبين كافور، وكلما اتسعت كثر في مجالها الحاسدون والواشون، وكلما أحس الشاعر ولو وهما بانزواء كافور عنه تيقظت لديه آفاق جديدة لغربته، وثارت نفسه وأحس بالمرارة إحساساً حاداً. لقد أحس بأنه لم يطلب فوق حقه ولم يتصرف بما هو خطأ، لأنه لم يصدر منه تجاوز على حق أحد. إلا أن هذا التصور البريء في ذهن الشاعر بعيد عن واقع الصورة التي في ذهن حاشية كافور. وما يصل إلى كافور من أقوال عن الشاعر، وعادة المتملقين من الوجهاء يتوصلون إلى الحاكم بواسطة حاشيته وإغراء بعض أفرادها بأن يكونوا جسوراً بينهم وبين سيدهم. هذه الجسور قد تقطع عند الحاجة بين الحاكم وبين خصومهم. أما أبو الطيب فلم يحسن هذا اللون من التظاهر ولم يفكر فيه، وإنما كان صريحاً بكل شيء في رضاه وسخطه صريحاً بما يرغب دون احتيال ولا محاورة، فما دام يشعر بالحق طالب به دون تأجيل. هذه الصراحة كثيراً ما أوقعته في مواقف حرجة، عند سيف الدولة، وهنا أيضاً عند كافور. لذا صارت للمتنبي صورة سلبية في نفس كافور، وخشي على ملكه إذا أعطاه ما يمكنه من ذلك. ظل أبو الطيب يرغب ويلح في طلبه، وظل كافور يداوره ويحاوره. كافور يحسن الاحتيال والمداورة وأبو الطيب صريح لا يحسن من ذلك شيئاً حتى وصل إلى حالة لم يستطع بعدها أن يبقى صامتاً. وشعر كافور برغبته في مغادرته فظن أن تشديد الرقابة عليه وإغلاق الحدود دونه سيخيفه ويمنعه من عزمه، ويخضعه كما يفعل مع غيره من الشعراء بالترهيب حيناً والذهب حيناً آخر. إلا أن أبا الطيب لم يعقه ذلك كله عن تنفيذ ما عزم عليه بعد أن أحس باليأس من كافور، وندم على ما فعل بنفسه في قصده إياه، وهو عند أكثر أصدقائه إخلاصاً وحباً. وظل يخطط إلى الهرب ويصر على تحدي كافور ولو بركوب المخاطر حتى وجد فرصته في عيد الأضحى. وخرج من مصر، وهجاً كافوراً بأهاجيه المرة الساخرة. إن تحديه لكافور في هروبه وركوبه كل المخاطر، ثم هذه الطاقة المتفجرة من السخط والغضب في هجائه يدل على مبلغ اليأس والندم في نفسه، ويبدو أنه كان حائراً حين فارق سيف الدولة، وحاول أن يمنع نفسه من التوجه إلى كافور. إلا أنه رجح أمر توجهه إلى مصر بعد إطالة فكر. ويبدو أنه فكر بهذه النتيجة اليائسة من ملك مصر أراد أن يتقدم من نفسه على ارتكابه خطيئة التوجه إليه واحتمالها مدحه، والتقيد بأوامره حينا. فهو حاول بأي وجه أن يشعر بالانتصار على هذه السلطة، عندما تحداه في هروبه، وفخره بالشجاعة والفروسية في اقتحام المخاطر في طريقه إلى الكوفة في مقصورته: ضربت بها التيه ضرب القمار.
مدح ابن العميد:
بعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت له معه مساجلات.
مدح عضد الدولة:
ثم رحل إلى شيراز، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي.
معركة العودة:
ثم عاد من شيراز يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً. فاقتتل الفريقان حتى قتل أبو الطيب وابنه محسد وغلامه مفلح (354 هـ= 965 م) بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة، وهي من سقطات المتنبي. وكان التمس منه خفارة لبعض الرجالة ليسلكوا به الطريق ويحموا عنه فلم يفعل، وقال معي سيفي ورمحي أخفّر. ويقال إن الذين خرجوا عليه من بني كلاب مع ضبة بن محمد العيني لما هجاه به: ما أنصف اليوم ضبُ. وكان الفرسان نحو خمسين فارساً، فقتل منهم جماعة وجرح جماعة وأثخن فيهم عدة، وقدرت الحرب من ضحوة إلى الأولى، ثم كلّ أبو الطيب وولده ومملوكه، فلما تطاول الأمر استرسل وظفروا به. فقتلوه وولده والمملوك. وأخذ جميع ما كان معه، ودفنوه في الموضع، وكان له قيمة كثيرة، ولم يكن طلبهم ما معه سوى نفسه. والذي تولى قتله منهم فاتك بن فراس بن بداد وكان قرابة لضبّة. ويقال أنه لما قرب منه فاتك كان معه عبد يقال له سراج، فقال له: يا سراج أخرج إليّ الدرع، فأخرجها ولبسها، وتهيأ للقتال، ثم قال هذه القصيدة.
أفرغ الدرع يا سراج وأبصر ما ترى اليوم ها هنا من قتال فلئن رحت في المكر صريعا فأنعَ للعالمين كل الرجال
ثم قال له فاتك: قبحاً لهذه اللحية يا سبّاب. فقال فاتك ألست الذي تقول:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والطعن والضرب والقرطاس والقلم
فقال أنا عند ذاك يابن اللخناء العفلاء. ثم قاتل وبطح نفساً أو نفسين، فخانته قوائم فرسه، فغاصت إحداها في ثقبة كانت في الأرض، فتمكن منه الفرسان وأحاطوا به وقتلوه واقتسموا ماله ورحله، وأخذوا ابنه المحسّد وأرادوا أن يستبقوه، فقال أحدهم لا تفعلوا، واقتلوه، فقتلوه. وحكى الشريف ناصر قال: عبرت على بدنه وكان مفروقاً بينه وبين رأسه، ورأيت الزنابير تدخل في فيه وتخرج من حلقه. أعاذنا الله من كل سوء ومكروه بمنّه وطوله. وكتب في سنة ثلث وثمانين وأربع مائة.
عصر أبي الطيب:
شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وز |
|