الأدب الأمازيغي بمختلف تجلياته اللهجية جزء لا يتجزأ من الأدب المغربي، ومكون أصيل من مكونات ثقافتنا الوطنية المتسمة بالتنوع والتعدد، ولعل من اهم ما يميز هذا الأدب أنه ينتسب إلى تراث موغل في القدم، وغني في الأشكال التعبيرية والاحتفالية، وقد غلب عليه الطابع الشفهي في جل مراحله السابقة بتفاوت من مرحلة لأخرى لظروف تاريخية معقدة، وبقي يُتوارث عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل باعتماد المشافهة والسرد والرواية بشكل أساس، إلى أن حلت الفترة المعاصرة معلنة مجيء "عصر تدوين" هذا التراث، وبروز أسئلة جديدة وإشكالات مغايرة كتلك التي تصاحب عادة تدوين ثقافات الأمم وتراث الشعوب، إيذانا ببدء مسار جديد لهذا المكون الوطني لولوج عوامل الحضارة والحداثة.
من الشفاهة إلى الكتابة: درجة الوعي بالانتقال
إن تحول الأدب الأمازيغي من طبيعته الشفاهية إلى الكتابة، ليس من قبيل التحولات العادية والبسيطة التي قد تمس كل الآداب والثقافات بين الفينة والأخرى، تبعا لما يستجد من معارف ومناهج وأحداث، بل هو انتقال في عمق مسار هذا الأدب، "وثورة معرفية" في تاريخه، وهو ما يفترض من الباحثين وكل المهتمين الوعي بدقة المرحلة وبأهمية الانتقال/التحول.
صحيح أن الأدب الامازيغي عرف محاولات عديدة لتدوين نصوصه وتوثيقها قبل هذا العصر([1])، وصحيح أيضا أن تواجد الإنسان الأمازيغي على أرض المغرب منذ اكثر من ثلاثين قرنا([2])، يعد دليلا كافيا للحديث عن أدب أمازيغي منذ القديم، مواكب لحياة هذا الإنسان في استقراره وترحاله، ومعبر عن آلامه وأحلامه وحاجاته، قد يكون أغلبه تعرض إما للإتلاف أو للنسيان، وفي كلتا الحالتين ما يزال أمام البحث العلمي الكثير مما يمكن فعله لتسليط الضوء على تلك المرحلة من تاريخنا الأدبي، على اعتبار أن معرفة أدبنا المغربي القديم (الأمازيغي والعربي) تعد من بين قضايانا العلمية والتاريخية الحساسة والمسكوت عنها، يقول عباس الجراري في هذا الصدد (من بين قضايانا التاريخية والفكرية تبدو قضية مغرب ما قبل الإسلام ذات أهمية كبيرة بما صادف هذا المغرب عند المؤرخين المغاربة والمسلمين عامة من إهمال يكاد يكون تاما).([3])
بالرغم من المحاولات التدوينية السابقة وما خلفته من آثار أدبية، تبقى الفترة المعاصرة بمثابة "عصر تدوين" حقيقي ومنهجي للتراث الأمازيغي، إذ مع بداية القرن العشرين تقريبا ستعرف الثقافة الأمازيغية بشكل عام نهضة شاملة - مستفيدة من الظروف الجديدة لهذ العصر - تجلت على المستوى الأدبي الذي يهمنا هنا في ثلاثة مجالات أساسية:
1- جمع التراث الأدبي الأمازيغي وتوثيقه ونشره.
2- تأليف أعمال إبداعية بالأمازيغية تنتمي إلى حقل الأدب الحديث.
3- إنجاز أبحاث ودراسات تتخذ من الأدب الأمازيغي الشفهي والمكتوب موضوعا للتحليل والتأويل.
ولنا بعض الملاحظات والاقتراحات بصدد كل جانب من هذه الجوانب على حدة.
1- جمع التراث الأدبي الامازيغي وتوثيقه ونشره :
إذا كان جمع مادة علم من العلوم أو فن من الفنون وإخراجها إلى عموم الباحثين والمهتمين، عمل له قيمته المعرفية باعتباره مرحلة أولية لابد منها في مسار أي بحث من البحوث العلمية، فإن هذا العمل تتضاعف قيمته العلمية كلما تعلق الأمر بالثقافات الشفاهية التي يكون تراثها معرضا أكثر للاندثار والزوال، إذ تصبح عملية جمع هذا التراث وتوثيقه ونشره من أولى الأولويات، وتغدو وسيلة وهدفا في الآن نفسه.
وفي هذا الإطار أساهم ببعض المقترحات والملاحظات انطلاقا من غيرتي الكبيرة على هذه التجربة، وتأملي المتواضع في بعض قضاياها:
أ- ضرورة التفكير في سبل تنظيمية أكثر نجاعة لمأسسة عملية جمع التراث الأدبي الأمازيغي وتوثيقه ونشره، حتى لا يبقى الأمر مجرد مبادرات فردية هنا وهناك، وتلك مهمة موكولة للدوائر الثقافية الرسمية، وللمعاهد المختصة وللجمعيات المهتمة.
ب- إنجاز أعمال بيبليوغرافيا لمعرفة ما أنجز في هذا المجال، سواء من لدن الأجانب ام من لدن المغاربة.([4])
ج- تأسيس شعب ووحدات بحث ببعض الجامعات المغربية تكون مهمتها جمع هذا التراث، وإعداد باحثين أكفاء وخبراء مؤهلين لولوج عوالم الثقافة الأمازيغية.
د- الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في الميدان السمعي البصري لتوثيق الأشكال الاستعراضية والاحتفالية لهذا التراث بالصوت والصورة (بعض العادات والطقوس والفرجات وما يصاحبها من مرددات...) باعتماد تصور علمي وثقافي بعيد عن التناول الفلكلوري الموجه للاستهلاك السياحي.
ﻫ- التنقيب عن المخطوطات الأمازيغية وتشجيع الباحثين على تحقيقها (إقامة معارض للمخطوطات وجوائز للتحقيق مثلا).
وإننا نرى أنه إذا لم تؤخذ هذه الإجراءات وأمثالها مأخذ الجد والاستعجال، وأمام زحف غول العولمة بأخطبوطه الإعلامي الضخم الذي لم يترك لا سهلا ولا جبلا، سوف يأتي –أو على الأصح سيأتي- يوم يقال فيه بتحسر وندم لا يجديان آنذاك: كان يوجد هنا أدب مغربي أصيل اسمه الأدب الأمازيغي.
2- تأليف أعمال إبداعية تنتمي إلى أجناس الأدب الحديث :
يمكن اعتبار سنوات السبعين من القرن العشرين البداية الحقيقية لانطلاق هذه التجربة الجديدة في تاريخ الأدب الأمازيغي بالمغرب، إذ ظهرت لأول مرة مجموعة من الأعمال الإبداعية من مختلف أجناس الأدب الحديث، من شعر، وقصة، ورواية، ومسرحية، ذلك أننا إذا تجاوزنا بعض المحاولات ذات الهاجس التوثيقي، مثل العمل الذي قام به إبراهيم أمزال سنة 1968 عندما جمع حوالي سبعون قصيدة ومقطوعة شعرية في ديوان "أمنار".
إذا تجاوزنا هذا العمل المهم بحكم أنه ينتسب إلى تجربة جمع التراث الأدبي وتوثيقه ونشره التي أفردنا لها النقطة الأولى، فإن أول ديوان امازيغي يصدره شاعر هو ديوان "إسكراف" / القيود، للشاعر محمد مستاوي سنة 1976، ويلاحظ أن لهجة "تاشلحيت" حظيت لحد الآن بحصة السبق والريادة داخل هذه التجربة، وهو ما نلمسه في عدد الأعمال المكتوبة بأمازيغية الجنوب ضمن بيبليوغرافيا الأدب الأمازيغي.([5])
ولأهمية هذه التجربة وما تستوجبه من عناية أبدي الملاحظات التالية:
أ- ضرورة اطلاع الأدباء على التجارب الأدبية العربية والعالمية والاستفادة من التراكم الحاصل في مختلف أجناس الأدب، من أجل تأسيس لغة أدبية جميلة، وأبنية فنية راقية.
ب- الاستفادة من الأبحاث النظرية المعاصرة لتعميق وعي الأدباء بنظرية الأدب بمختلف مكوناتها الجمالية، التركيبية والإيقاعية والخيالية.
ج- السعي إلى مزيد من التجديد والإبداع للخروج من شرنقة الأدب الشفهي التقليدي، مع الإبقاء على صلة الوصل معه حتى لا تكون القطيعة التامة.
د- الاجتهاد اكثر في استعمال المعجم المشترك بين اللهجات الأمازيغية كخطوة أولية لبناء اللغة الموحدة المعيارية، للانتقال بالأدب الأمازيغي من طابعه اللهجي الحالي إلى الأدب الفصيح.
هـ- الوعي بالوضعية الجديدة لتلقي الأدب المكتوب وما تتطلبه من تكييف لمختلف المكونات النصية للخطاب الأدبي مع التلقي البصري، مع التفكير في إبداع اشكال مناسبة للتواصل مع المتلقي خارج تقاليد الأدب الشفاهي.
3- إنجاز دراسات تتناول الأدب الأمازيغي :
إن الدراسات المغربية التي تتناول الأدب الأمازيغي قليلة جدا مقارنة مع ما كتبه الأجانب، فإذا استثنينا أبحاث عمر آمرير([6])، وبعض أعمال الندوات والملتقيات الأدبية والعلمية([7])، لا نكاد نعثر على دراسات علمية متخصصة ومنشورة، وفي المقابل نجد الأبحاث والدراسات التي كتبها الأجانب كثيرة جدا([8])، مع الإشارة إلى أنها ليست كلها ذات أهداف علمية معرفية.
وبالرغم من توافر هذه الدراسات التي تجعل من الأدب الامازيغي موضوعا للتحليل والتأويل فإننا نطرح هذا السؤال الذي نراه مهما في هذه اللحظة : هل حان وقت الدراسة بالنسبة للأدب الأمازيغي ؟
ويستمد هذا السؤال مشروعية طرحه من خلال الموقع الذي تتموضع فيه "الدراسة" في سلم الفعل الثقافي والمعرفي بشكل عام، باعتبارها فعالية بعدية، تأتي بعد توافر النصوص وتراكم الأعمال التوثيقية، والحال أن المتتبع لواقع الأدب الأمازيغي تتبعا موضوعيا يتعالى ما أمكن من الاعتزاز الزائف بالذات، يقتنع بأن هذا الأدب لم يتجاوز بعد عتبات المرحلة الأولى، لدى نرى من الناحية المبدئية أن الدراسة لم يحن بعد وقتها، لأننا ما نزال بحاجة إلى جمع المتون الأدبية من مختلف الأشكال والأجناس، وتحقيقها وتوثيقها ونشرها، وهو ما يستدعي توحيد الطاقات وتوجيهها لهذا الجانب للاقتصاد أكثر في الجهد والوقت. أو بتصور آخر يمكن أن ندمج المرحلتين في مرحلة واحدة، ونجمع بين الحسنيين، بين الدراسة والتحليل وبين التدوين والتوثيق، ونعتبر مشروع عمر أمرير نموذجا معبرا عن هذا المسعى، لأن أغلب أعمال الباحث تؤدي وظيفة مزدوجة، فبالرغم من نواياها المعلنة وأهدافها الواضحة الساعية لدراسة النصوص الأدبية والأشكال والعادات الشعبية تبقى مسكونة إلى حد بعيد بهموم التوثيق والتدوين وهو حس يتسارق مع الدور التاريخي المطلوب.
من خلال ما سبق يتبين أن الأدب الاأمازيغي –والثقافة الأمازيغية ككل- يجتاز مرحلة مصيرية تستوجب على المهتمين وكل الغيورين على الأدب المغربي وقفة خاصة لرصد تضاريسها المعرفية والمساهمة في هندسة خطوطها المستقبلية بحس وطني متفتح، وبتصور شمولي يتسم بالحكمة وبعد النظر ويترفع عن كل أشكال الإثارة والتشنج والغلو.