لم يكن المسلمون هم الذين اخترعوا علم التاريخ، بل سبقتهم كثير من الأمم إلى الكتابة فيه.. ولكن المسلمين لم يكتفوا بما كتبه غيرهم فيه لأسباب عديدة، أهمها تحري الدقة واتخاذ الحيطة، وتصحيح كثير من المفاهيم المتعلقة بهذا العلم ، سواء من حيث تعريفه أو موضوعه أو الغرض منه.
تعريف علم التاريخ:
يقول صدّيق بن حسن القنّوجي في كتابه (أبجد العلوم): علم التاريخ هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم إلى غير ذلك.
وموضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والملوك والشعراء وغيرهم.
والغرض منه: الوقوف على الأحوال الماضية.
وفائدته: العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها، وحصولُ ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن، ليحترز عن أمثال ما نقل من المضار، ويُستجلب نظائرها من المنافع ـ كذا في (مدينة العلوم) ـ وهذا العلم كما قيل عُمُر آخر للناظرين، والانتفاع في مصره بمنافع تحصل للمسافرين. كذا في (مفتاح السعادة).
الأسلوب العلمي لكتابة التاريخ:
من أفضل من وضح للناس الأسلوب العلمي لكتابه التاريخ، وضرورة أن تسجل الحقيقة فيه، وأن يبحث المؤرخ عنها ليظفر بها وإن كان في ذلك بذل الجهد، والتشمير عن ساعد الجد، ذلك المؤرخ العظيم الذي سبق غيره بنظراته التحليلية الرائعة للتاريخ والحياة، والتي أودعها في مقدمة تاريخه الشهيرة باسم (مقدمة ابن خلدون) التي افتتح بها كتابه الهام (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر).
يقول ابن خلدون بأسلوبه البليغ وقلمه السيال: أما بعد: فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتُشد إليه الركائب والرحال، وتسموا إلى معرفته السُّوقة والأَغْفَال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال (أي الرؤساء) ويتساوى في فهمه العلماء والجهال. إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتُطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال.
وفي باطنه (أي باطن علم التاريخ للمتبحرين) نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع أسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق.
ثم ينتقل ابن خلدون رحمه الله إلى ما كتبه الكثير دون تمحيص واحتراز أو ما دسه بعض المغرضين من كذب وافتراء فيقول:
وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وَهَموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضُعْفَة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثيرُ ممن بعدهم واتبعوها، وأدَّوْها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا تُرّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطَرْف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار خليل.
من طرائف المؤرخين:
ولعل من الطرائف المناسبة ـ بعد استعراض كلمة ابن خلدون في فن التاريخ وعلمه ـ أن نذكر ما ذكره صاحب أبجد العلوم عن ابن خلدون نفسه، حيث قال :
ومن الكتب النفيسة المعتبرة في هذا تاريخ القاضي عبد الرحمن بن محمد الأشبيلي الحضرمي المالكي المتوفى سنة ثمان وثمانمائة، وهو كبير عظيم النفع والفائدة، رتب على السنين. وروي أنه كان في وقعة تيمور قاضياً بحلب فحصل في قبضته أسيراً سميرا (أي وقع ابن خلدون في قبضة تيمور واضطر لملازمته) فكان يصاحبه، وسافر معه إلى سمرقند فقال له يوماً: لي تاريخ كبير جمعت فيه الوقائع بأسرها، وخلفته بمصر، وسيظفر به المجنون ـ يشير إلى برقوق ـ فقال له تيمور: هل يمكن تلافي هذا الأمر واستخلاص الكتاب، فاستأذنه في أن يعود إلى مصر ليجئ به فأذن له.
ولعل ذلك الكتاب الذي أشار إليه هو كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر) وقد اشتهر نحو ثلثه بالمقدمة، ودوّن مفرداً.
منهج المسلمين في تدوين التاريخ:
ولئن لم يكن أمام المؤرخين المسلمين سبيل سوى الاعتماد على كتب الإسرائيليات وغيرها من الأخبار والمدونات القديمة، فيما تنقله لهم من أخبار الأنبياء والرسل والشعوب السابقين والجيوش والبلدان، فإنهم قد تسلحوا في تدوينهم لأخبار التاريخ بعدة أسلحة تعينهم على الوصول إلى الحقيقة، وتبين منهجهم في هذا العلم الواسع، وتبرهن على أنهم كانوا محققين كما كانوا نقلة، وكانوا بصراء كما كانوا أمناء.
1ـ عرض الأخبار المتعلقة بالأمم السابقة على الكتاب والسنة أولاً، فإن كانت مما تحدث عنه القرآن، أو بلّغ عنه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فلا بد من الموافقة للوحي المعصوم عن الخطأ بادئ ذي بدء، وإلا فإنها ترد.
يقول الإمام ابن كثير في تاريخه الشهير (البداية والنهاية): ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله، مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ... وما ذلك إلا لأن القرآن الكريم والسنة النبوية من أدق وأصدق مصادر التاريخ.
2ـ المحاكمة العقلية للحوادث المدونة، حتى تكون منضبطة بضوابط الواقع، مقيدة بقيد العقل، مسايرة لأحوال الخلق وطبيعة الكون.
وفي هذا المجال يقول ابن خلدون: فهو (أي علم التاريخ) محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت، يُفْضيان بصاحبهما إلى الحق... لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكّم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العُمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولاقيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق..
ثم يستعرض أمثلة رائعة لما وقع فيه بعض المؤرخين من أخطاء في تقدير أعداد وجيوش بني إسرائيل مثلاً، أو ما تناقله الناس من قيام أهل اليمن بغزو أفريقية والمغرب العربي، أو ما يسطره بعض المؤرخين في قصة قوم عاد ومدينتهم المزعومة (إرم)، أو ما دسه الداسون من روايات باطلة عن سلوك العباسة أخت هارون الرشيد مع جعفر بن يحيى البرمكي مما أدى إلى نكبتهم ـ زعموا ـ، وغير ذلك وهو يحاكم كل تلك الأمثلة محاكمة عقلية وواقعية وعلمية رائعة.
3ـ أما أخبار الإسلام وأهله ودوله، فلقد حظيت باهتمام من المؤرخين شديد، سواء في تفصيلاتها الدقيقة، أو في المحافظة على سلسلة رواتها للتأكد من صدقهم، وهذا ما نجده واضحاً في أخبار سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأخبار الخلفاء الراشدين، بل وأخبار الدولة الأموية والدولة العباسية كذلك، مما جعل هذا الجزء من التاريخ أصدق أجزاء التاريخ القديم، بل والحديث أيضاً.
4ـ اهتمام المؤرخين المسلمين بضبط الأسماء الواردة في التاريخ حتى ولو كانت غير عربية. وهذا أمر مهم حتى يخدم المتعلم ويحفظ الأصل.
وقد أفرد ابن خلدون في مقدمته كلاماً خاصاً في ذلك، يقول: وقد بقي علينا أن نقدم مقدمة في كيفية وضع الحروف التي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا..الخ.
أهم كتب التاريخ:
وكتب التاريخ التي خاضت غماره كثيرة العدد جدا، حتى قال حاجي خليفة في كشف الظنون: قد استقصيناها إلى ألف وثلاثمائة .. وهي أنواع فمنها ما يتناول فترة معينة، ومنها ما يشمل تاريخ العالم كله، ومنها ما يتحدث عن بلد معين، ومنها ما صدره مؤلفه بمقدمة عن أمور مهمة تتعلق بالتاريخ أو العمران أو الشعوب، ومنها ما تناول أعلام مائة من السنين معينة، إلى غير ذلك من الأنواع والأصناف.
وعلى سيبل المثال لا الحصر نذكر من تلك الكتب ما يلي: (البداية والنهاية) لابن كثير، و(تاريخ أبي جعفر الطبري) وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها، و(الكامل) لابن الأثير الجزري، و(مرآة الزمان) لسبط ابن الجوزي. و(تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، و(شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) للإمام الفاسي، و(التاريخ الكبير) للإمام الذهبي، و(الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر، و(يتمية الدهر) للثعالبي، و(تاريخ دمشق) لابن عساكر، و(تاريخ الخلفاء الراشدين) للسيوطي، وغير ذلك كثير وكثير جداً..
نعم لقد صدق بعضهم حينما قال: لم تهتم أمة بالتاريخ قدر اهتمام المسلمين به، حتى سبقوا غيرهم في هذا المجال. وحتى كان ما كتب عن الماضي أكثر مما كتب عن الحاضر.. فهل نحن أمة تاريخ؟ . أظن ذلك !! .